كانت الشمس في القرن الخامس عشر تشرق كل صباح وتغرب كل مساء كما هي اليوم. وحينما تقبل أشعتها الأولى ندى الأرض تنفض هذه عنها غبار الكرى، وتشيع في الدنيا البهجة وتحلو الأماني! وتعود الأرض في المساء إلى سكونها ثم تغوص في غياهب الليل. وقد ترى أحياناً سحابة راعدة تلوح، ويقصف الرعد وهو يزمجر، أو تهوى نجمة من شاهق وهي وسنانة، أو يقبل راهب حثيث الخطى شاحب اللون ليخبر رفاقه بأنه رأى نمراً قريبا من الدير. كان هذا كل شيء، ثم تعود ثانية الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي.
كان الرهبان يصلون ويعملون: أما رئيس الدير فيعزف على الأرغن، ويقرض الشعر اللاتيني، ويؤلف النغم الموسيقى. وكان للكهل الحلو الوديع ذكاء نادر وسجايا حميدة. فهو يعزف على الأرغن ببراعة، حتى أن معظم الرهبان القدماء الذين يضعف سمعهم كلما قربت نهاية حياتهم ما كانوا يستطيعون أن يحبسوا دموعهم كلما هفا صوت أرغنه من صومعته. وعندما يتكلم ولو عن الشؤون العامة كالشجر والوحوش الضارية والبحر الخضم، لا يسمعه إنسان دون أن ترى دمعة تترقرق في عينيه، أو بسمة ترتسم على شفتيه، فيخيل اليك أن الأنغام التي تتجاوب في الأرغن هي بعينها التي تعتلج في نفسه. وحينما يهيجه غيظ متمكن، أو يأسره فرح شديد، أو يتحدث عن أشياء مروعة تأخذه نشوة قوية، ويتسايل الدمع من عينه اللامعة، وتضرج وجهه الحمرة، ويدوي صوته كالرعد. هنا يحس الرهبان المستمعون أن أرواحهمتذيبها عظمته وأنها تفنى فيه. لقد كانت قوته في هذه الدقائق العظيمة العجيبة لا تحد، فلو أمر شيوخ الدير أن يقذفوا بانفسهم في البحر لاستبقوا اليه مسرعين.
كان موسيقاه وصوته وشعره الذي يمدح به الله منبعاً لسرور الرهبان لا ينضب. ففي مدة حياتهم الرتيبة تنقلب الأشجار والأزهار والربيع والخريف إلى أشياء مملة، ثم يقلقهم هدير اليم الزاخر، ويصبح شدو الطير مملول النغم مرذول الجرس. ولكن سجايا رئيسهم كانت