كرت السنون ومازالت الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي وما دنا من الدير أحد اللهم إلا ضواري الوحش وجوارح الطير. وكانت أقرب المساكن الإنسانية بعيدة جداً. ولا تصل اليها من الدير أو تصل إلى الدير منها حتى تعبر صحراء ذرعها مائة ميل.
والذين يجرءون على القيام بهذا هم أولئك الذين لا يجعلون للحياة قيمة ولا يقيمون لها وزناً، والذين نبذوها وراءهم ظهرياً ونفضوا أيديهم منها جملة. يولون وجوههم شطر الدير وكأنهم يسيرون إلى القبر.
ولشد ما كانت دهشة الرهبان عند ما قرع بابهم في ليلة من الليالي رجل برهن لهم على أنه من سكان المدينة: وكان هذا الرجل أكثر الناس ارتكاباً للإثم وحبا للحياة. وقبل أن يصلي أو يرجو رئيس الدير أن يباركه طلب طعاما ونبيذا.
فلما سألوه عن سبب قدومه من المدينة إلى الصحراء قص عليهم قصة طويلة: خرج يطلب الصيد ومعه شراب كثير فضل الطريق، وعند ما أشاروا اليه أن الواجب عليه أن يمسي راهباً أجابهم في ابتسام:(لست لكم بصاحب!)
شرب واكل ملء بطنه، ثم رفع بصره إلى الرهبان الذين يقومون بخدمته وهز رأسه لائماً وقال:
(إنكم معشر الرهبان لا تعملون شيئا، كل ما تعنون به هو طعامكم وشرابكم، هل هذه هي الطريقة لخلاص أرواحكم؟ فكروا الآن! بينما أنتم تعيشون في هدوء هنا، تأكلون وتشربون وتحلمون بالخيرات والبركات إذا بإخوانكم هناك قد كتب عليهم عذاب الجحيم، انظروا ما الذي يحدث في المدينة! بينما بعض الناس يموتون جوعا، إذا بالآخرين لا يعرفون أين يبذرون الذهب، ينغمسون في الدعارة ويهلكون فيها كما يهلك الذباب في العسل، ثم لا صدق ولا إخلاص بين الناس. من الذي يجب عليه انتشالهم مما هم فيه؟ أأنا الذي أروح صريع الكأس من الصباح إلى المساء؟ هل أنعم الله عليكم بالخلاص، ومنَّ عليكم الحب، وحباكم بالقلوب الرحيمة، لتجلسوا هنا بين هذه الجدران الأربعة ولا تعملون شيئا؟!).
ومع أن كلام الرجل السكير كان ينطوي على الجرأة والقحة فقد أثر تأثيراً غريبا في رئيس الدير فنظر هو والرهبان بعضهم إلى بعض ثم قال رئيسهم بوجه شاحب (إخواني انه