رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباءً فَنَسأ بالولد في آثارهم، ومدَّ بالنسل في وجودهم، وزاد منه في أرواحهم أرواحاً، وضم به إلى قلوبهم قلوباً، وملأ أعينهم من ذلك بما تَقّر به قُرّةَ عَين كانت لم تجد ثم وَجدت، فهم بهؤلاء الأطفال يملكون القوة التي ترجعهم أطفالاً مثلهم في كل ما يسرهم، فيكبر الفرح في أنفسهم وإن كان في ذات نفسه ضئيلاً صغيراً، ويعظم الأمل في أشيائهم وإن كان هو عن شيء حقير لا يُؤبْه له؛ وتلك حقيقة من حقائق السعادة لا أسمى ولا أعظم منها إلا الحقيقة الأخرى، وهي القوة التي يتحول بها الكون في قلب الوالدين إلى كنز من الحب والرحمة وجمال العاطفة، بسحر من ابتسامة طفل أو طفلة، أو بكلمة منهما أو حركة، على حين لا يتحول مثل ذلك ولا قريباً منه بمال الدنيا ولا يملك الدنيا.
رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباءً، ولكنه ابتلاني بأن أكون أباً، وأخرج لي من أفراح قلبي أحزانَ قلبي!
ولقد كنت كرجل ملك داراً يستمتع بها، فتمنى أن يشرع في جانب منها غرفةُ يُزخرفها، فلما تم له ذلك وبلغ المقْترح إنهدمت الدار، وبقيت الغرفة قائمة!
عَمْرَك الله، أيشعر هذا الرجل في نكبته بالغرفة أم بالدار؟
وهل تراه زاد أو نقص؟ ويا ليتهما بيت وغرفة من بيت؛ فان الحجارة تحيا بالبناء إذا ماتت بالهدم، ولكن من ذا يحي الزوجة ماتت بعد أن وضعت بِكرَها الأول والآخر:
إنها طفلة وِلدتُ وكأنما أٌخرجت من تحت الردم إذ وُلدت تحت ماضٍ من الحياة منهدم. وهل فرقٌ بين هذا وبين أن تكون أمها قد ولدتها في الصحراء ثم أكرهت أن تدعها وحدها في ذلك القفر تصرخ وتبكي! فالمسكينة على الحالين منقطعة أولَ ما انقطعت من حنان الأم ورحمتها.
طفلة وُلدت صارخة، لا صرخة الحياة، ولكن صرخة النوْح والندب على أمها.