صرخة ترتعد كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يُدفئها!
صرخة تترد في ضراعة كأنها جملة مركبة من هذه الكلمات:(يا رب ارحمني من الحياة بلا أم!).
قال المسكين هو يبكي امرأته:
ولما ضَرَبها المخاض ضاعفت قوتها من شعورها أنها ستكون بعد قليل مضاعفة، وستكون روحين لا روحاً واحدة، وتلد لي الحياة والحبَّ والإلهى معاً، وتأتي لقلبي بمثل طفولته الأولى التي يستحيل ان تأتي الرجلَ إلا من زوجه. كل ذلك ضاعف قواها ساعة وشدّ منها، ولكن ما أسرع ما تبينتْ أنه الموت إذُ عضَّلتْ وعسر خروج مولودها وجاءها اِلجراحّى بمبضعة، وكأنما رأته ذابحاً لا طبيباً فجعلت تعبر بعينها إذ لم تملك في آلامها القاتلة غير لغة هاتين العينين.
كانت بنظرة تبكي عليّ وعلى بؤسي، وبأخرى تبكي على بؤس مولودها وشقائه؛ وبنظرة تودعني، وبأخرى تدعو الله لي جزاء ما أحسنت إليها؛ وبنظرة تتوجع لنفسها، وبأخرى تتألم من أنها تراني أكاد اجن.
نظرات نظرات.
يا إلهي! لقد خيل إليّ أن ملك الموت واقف بين عشرين مرآة تحيط به، فأنا أراه موتاً متعدداً لأموتاً واحداً. وكل نظرة عينْي زوجتي إليّ كانت منها هي نظرةً، وكانت عندي أنا مرآة الروح للروح.
ولكنها لم تنس أنها تموت لوضع مولودها، وإن هذه الآلام الدموية الذابحة هي الوسيلة لأن تترك لي بقية حية منها؛ فيا للرحمة والحنان والحب! لقد ابتسمت لي وهي تموت، وهي تلد، وهي تذبح!
ليست رحمة المرأة المحبة خيالاً إلا إذا كانت حرارة الشمس التي تحي الدنيا خيالاً أيضاً؛ إن هذا القلب النسوي المستقر فوق أحشاء تحمل الجنين صابرة راضية فرحة بآلامها، وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها - هذا القلب يحمل الحب أيضاً صابراً راضياً فرحاً بآلامه، ويغذوه ويقاسمه حياة نفسه. وللرحمة الإلهية أدلة كثيرة تدل الإنسان عليها دلالاتٍ مختلفة؛ فالشمس تدل عليها بالضوء الذي تَطعمه الحياة، والهواء يدل عليها بالضوء الذي تتنفسه