كان تدخين الحشيش في أيامنا الخوالي مقصوراً على صعاليك الناس، يجلبونه في السر، ويدخنونه في الخفاء، ويلوذ بعضهم ببعض في زرائب القرى وخرائب المدن، فراراً من النظرات الجارحة والغمزات المهيمنة، لأنهم كانوا في رأي المجتمع أقل قدراً وأذل نفساً من معاقري الخمر ومتعاطي التبغ؛ فبينما كان الخيال المحايد يصور الكأس جمالا بين يد مترفة ووجه وضئ، والسيجارة جلالا بين يد قوية وثغر جريء، كان يصور الجوزة بقذارة بين يد خشنة وفم بذيء! فلما عمم البوليس تداول الحشيش في كل بيئة، ويسر تناوله على كل طبقة، بفضل مطاردته الدائبة لجالبيه ومهربيه، ومصادرته المستمرة لبائعيه ومحرزيه، أصبحت الكأس لا تلذ إلا معه، والسيجارة لا (تكيف) إلا به؛ وأضحى ذلك الشيء الحقير القذر يصان في حقيبة يد المرأة، وفي حافظة نقود الرجل، وفي محفظة كتب الطالب، وفي درج مكتب الموظف، ولا يسمى الرجل متمدناً ولا متقدماً إلا إذا أخذ منه وأعطى، وأتحِف به وأتحف؛ وأمسى الحشيش والحشاشون في صدر المجتمع وفي عين الدولة، لهم ذكر في الصحف، ومواد في القانون، وقلم في البوليس، ومحكمة في القضاء، ومهربون من حجاج البيت، وموردون من رجال السياسة، ومصدرون من إخوان العروبة! ولا جرم أن هذا الطبل الذي لا يسكن نقره، وذلك المزمار الذي لا ينقطع زمره، هما اللذان جذبا إلى الحشيش النظر، وجعلا للحشاشين والمهربين هذا الخطر! والمحظور منظور، والممنوع متبوع، والإعلان إعلام.
أين من حالهم اليوم حالهم بالأمس؟ كنا لا نراهم إلا في النادر، ولا نسمع بهم إلا في النكت والنوادر. ومن وقع منهم في الرؤية أو في السماع كان موضع النكير والتحقير حتى يتوب أو يموت. اقرأ هذه القصة ثم وازن في نفسك بين حال الحشيش حين كان وازعه الدين والخلق، وحاله حين أصبح وازعه القانون والبوليس:
كانت قريتنا حين وعيت لا تفهم من الحشيش إلا العشب، ولا من الحشاش إلا من يحش البرسيم. وكان ظرفاؤها ممن يغشون المدن يروون لأهلها الأضاحيك عن الحشاشين في القاهرة فيحسبونهم صنفاً من الناس تميزوا بالنكت والحيل والمعارف، حتى طرأ عليهم