رجل فقير ضرير يلبس الطربوش التركي والعباءة الجوخ والجلباب الصوف، ولكنه كان مقطوع الأسباب، فلا هو سائل فيعيش على الإحسان، ولا هو حافظ فيتكسب بالقرآن. إنما كان رجلا مهذب النفس، حلو الحديث، بارع النكتة، يحسن الغناء، ويجيد النقر على الدف، فأحسنوا لقياه وأكرموا مثواه وأفرد له عمدة القرية حجرة خارج الدور جعل منها دكانه ومجلسه ومضجعه. وكان يختلف إلى هذه الحجرة في كل مساء بعض الشيوخ ممن يحبون غريب السمر، وبعض الشباب ممن يطلبون لهو الحديث. وكان عباس، وهو اسم ذلك الرجل - يتنقل بالجلوس من جد إلى هزل، ومن غناء إلى عزف، فيعجب ويطرب، ولكن أمتع ما فيه كان الدعابة والنكتة: كانت نكته على طريقة (اشمعنى؟) وكانت دعاباته من طريق التورية. وكان يركب بهاتين الطريقتين أو بإحداهما ثلاثة من خلطائه وخلصائه: فقيها أعمى وطحاناً أعشى وفلاحاً أعور، فلا يدري أحد منهم كيف يدفع عن نفسه. كان هؤلاء الثلاثة يبقون إذا انصرف السمار، فيغلق الفلاح الباب، ويوقد الطحان النار، ويهيئ الفقيه الجوزة، ويُعد عباس القرص، ثم يتعاقبون الغابة نفسا بعد نَفس. وكان عباس قد أخبرهم منذ اطمأن إليهم أن هذا هو الحشيش الذي يفتق ذهن الغبي، وينطق لسان الأبكم، ويرهف حس البليد؛ وأنه هو الحشاش الذي تحفظ نكته، وتروى حيله، وتطلب فتواه. فلم يخامرهم شك في قوله، لأنه هو نفسه الدليل على صدقه، فأقبلوا على المدخنة القذرة يأخذونها للشهيق والزفير، ويتركونها للسعال والشخير، حتى أصبحوا مدمنين لا يطيقون صبراً عن الحشيش، ولا يستطيعون بعداً عن عباس. وكان لابد للحشاشين الجدد أن يساجلوا في (القافية) الحشاش القديم. فنجح الأعمى كل النجاح، ووفق الأعشى بعض التوفيق، وأخفق الأعور غاية الإخفاق؛ لأن غباء ذهنه كان أكثف من أن يلطف، وغشاء حسه كان أصفق من أن يرق. ولكنه كان قوي الإيمان بالحشيش فلم يؤمن بالواقع. وأقبل المساء وغصت الحجرة كعادتها بالشبان والأحداث، فلهوا بالحواديت، ثم تساجلوا بالفوازير، ثم تجاوبوا بالمواويل، ثم أخذ عباس يرسل النكتة بعد النكتة فيقهقه لها الحضور، ويرد عليه الفقيه والطحان فتنبلج لردهما الصدور، وتنصب النكت على الفلاح انصباباً فيحاول أن يردها عن نفسه فيغفر فاه، ويرعش رأسه، ويهز يده، ويحاول أن ينطق فتنشب في حلقه الحروف ولا تخرج، ويتردد في صدره الصوت ولا ينطلق، فيسخر منه الجلوس