ويتناولونه بالعبث المؤلم فلا يسعه إلا الانصراف. وفي أثناء الطريق تواردت على خاطره شبهات في قدرة الحشيش على حل العقدة من اللسان، ولكنه دفعها بما فعل في الفقيه والطحان، وعزم أن يضاعف المقدار. فلما رجع إلى (غرزة) العباس بعد انصراف الناس كرر الشد، وعمق النفس، وطول النوبة. وفي آخر الليل استعمى رفاقه واختلس قطعة كبيرة من الحشيش، وظل في داره النهار كله يقتطع منها القطعة على قدر حبة الفول، ويذيبها في فنجان من القهوة السادة ثم يجرعها. فعل ذلك مرتين ثم أراد أن يفعل الثالثة فلم يستطع. لقد أخذته حال من الخدر الشديد فصار يأكل ولا يشبع، ويشرب ولا يرتوي، ويتكلم ولا يعي، ويضحك ولا يكف. وكلما رأى أحداً من أهله أو من جيرته قال له بلهجة متلكئة متقطعة متكلفة: أنت تمشي - اشمعنى؟ زي الحمار! أه أه آه! أنت تأكل، اشمعنى؟ زي الغول! أه أه آه! فينظر إليه السامع مشدوهاً ولا يضحك، فيرفع (المسطول) الصوت، ويعيد النكتة، ويردد الضحكة، ولكن المشدوه يظل واجماً ولا ينطق. وفي المساء تحامل الأعور على نفسه حتى بلغ مجلس اللهو، ولم يكد يدخله حتى قال بلهجة المنزل المسطول: أنت يا عباس! فأجابه عباس مبتهجاً: اشمعنى؟ فقال له: أعمى! أه أه آه! وانتظر هو ماذا يقول الناس، وانتظر الناس ماذا يقول عباس، فإذا بالناس يصيحون، وإذا عباس يصيح! أهذه نكتة يا نصف أعمى؟ ثم انفجر بالنكات الساخرة في وجه الحشاش المخدوع حتى ألجأه إلى الخروج فخرج خزيان يهذي. وعاد إلى داره وهو يشعر أنه الليلة خير منه البارحة، لأنه قال على كل حال شيئاً. وكان قد عرف من عباس أين يباع الحشيش فاشترى منه مقداراً كبيراً وأخذ يذيب منه في القهوة ويشرب. وفي كل ساعة من ساعات النهار والليل كان يرتقب وحي الحشيش فلا ينزل، وينتظر ذكاء الحشاش فلا يقبل، فيضاعف المقدار ويزيد الوجبات، حتى هزل جسمه، وشحب لونه، واختل هضمه، واعتل صدره، واضطرب عصبه، وساء خلقه، واعتراه الهمود، ولزمه الوسواس، فصار لا يعمل في غيط ولا بيت، ولا يفكر في زوج ولا ولد، وإنما كان أكثر يومه نائماً، فإذا أفاق هذى بالنكت الباردة والدعابات السخيفة. وفي غشية من غشيات المخدر باح بالسر المكنون فقال وهو يضرب بيده على صدره: أنا الحشاش الأصلي لأنني أشرب الحشيش بالفنجان، وعباس وصاحباه حشاشون مقلدون لأنهم يكتفون منه بالدخان!