كانت أعراض الشيخوخة وأزمات الداء قد أخذت منذ حين تصارع في غير هوادة حيوية القلب الفتي والعصب الشاعر في هيكل الزهاوي، وكان الزهاوي يأبى أن يهادن الزمن الغلاب، فهو حركة فكرية دائبة وجملة عصبية ثائرة، لا يفتر ليله عن الفكر، ولا يكل نهاره من الحديث؛ وحديثه المتصل في قصر الإلهام، وفي دار الدفتري، وفي مقهى (أمين) إذابة لجسمه وإحراق لعصبه، لأنه لا ينفك منفعلاً بشعوره متأثراً بطبعه. وحياة الزهاوي كلها تفكير في قصيدة، أو قراءة في كتاب، أو محاضرة في حديث
ذهب الزهاوي يوم الأحد الماضي متأخراً على غير عادته إلى قهوته المختارة في منعطف شارع خالد بن الوليد ببغداد، وكان أصدقاؤه وتلاميذه وسماره قد تحلقوا حول مقعده الخالي ينتظرون كاهن أبوللو وشاعر الفكر الحديث؛ دخل متوكئاً على ذراع خادمه محمود، وهو يبسم لجلاسه بسمة السراج الفاني والأمل الشاحب؛ ثم شكا بعد شوط من الحديث الممتع ألماً في أعلى كتفه الأيمن عزاه إلى كثرة ما كتب ليلة الأمس، إذ قضى ليله ينظم قصيدة أخرى يحيي بها مصر على لسان الوفد النيابي الذي سيزورها عما قريب؛ ثم اجتزأ بأكل قليل من الكمأة ولم يعد إلى الغداء في البيت، واقترح على صديقه الأستاذ بحري صاحب العقاب أن يذهبا إلى السينما فيشاهد فلماً مصرياً ورد بغداد منذ قريب، ولكن الألم اشتد بَرْحه والقلب زاد وجيبه؛ فأقبل على صديقه وقال بلهجته الخاصة:(يا أفندم! إن هذا الألم يكاد يقضي عليّ، وهذه النوبات العصبية تنهك قواي. . يا أرحم الراحمين أنقذني من هذه الآلام!) ثم رغب أن يعود إلى داره؛ ولم يكد يدخلها حتى أحس بالداء يتسع وبالنفَس يضيق، فدعوا إليه الطبيب حوالي الساعة الرابعة بعد ظهر الأحد ولكنه كان قد فارق الحياة!
ريعت بغداد بالنعي المفاجئ والخبر الأليم، ولملكها الجزع على لسانها الذي أخرسه الردى، وقلبها الذي أسكته القدر، وتقاطر الناس على دار الشاعر الهامد يتقدمهم الوزراء والعلماء والنواب والأعيان والقادة؛ وفي الوقت المحدد للجنازة من ظهر يوم الاثنين خرج النعش محمولا على أكتاف عشرين طالباً من طلاب الفتوة فوضعوه في السيارة، وجلس من خلفها