كان لي صاحب ما شهدت له نديداً فيما رأيت من الصحاب. كان أكبر الناس في عيني، وكان رأس ما أكبره في عيني أني ما عرفت عنه غميزة تميل به إلى جانب الغرور، على ما به من مزايا فاضلة، وعلى ما كانت تفيض به جوانب نفسه من البصر بفنه والعلم القائم على أساس وطيد، وعلى ما كان بتدافع في شرايينه من دم الشباب النضير. وفي كل أولئك حوافز الذهاب بالنفس والتكاثر بالسطوة إلى مدى بعيد.
وكان في عقدي أن من رأى هذا الصديق نظرة أجله، ومن خالطه معرفة أحبه. وجدت فيه ما افتقدت في سائر الصدقان: تواضع على علم، وحياء في ورع، وسذاجة من غير تكلف، وبساطة تنأى عن التعقيد. وكل أولئك محبب إلى النفس، وكل أولئك شئ عزيز المنال.
ولازمت خدبنى هذا ملازمة شديدة، توثقت عناصرها على الأيام، حتى حسب الناس أ، فكاك لازدواجنا، وأن أحدنا لا غناء له عن رفيقه. وكذلك كنا لا نفترق ظغلاً على موعد من لقاء قريب، في الإصباح والإمساء، وإذ كنا متجاورين في السكنى. لم تفرق بيننا إلا المضاجع، وما أثقل الساعات التي تتجرم على بعادنا، وما أطول اللحظات التي تنقضي دون لقائنا.
هنالك بين ربوع الإسكندرية الماعمة، كنا نساحل على شاطئ البحر الجميل في أخريات الربيع وفي ذرور الصيف ومطالع الخريف، وكانت لنا ثم ملاعب ومرابع. لا يرنق صفاءنا اعتكار، ولاينال من عشرتنا لسان، إذ كان قوامها لإخلاص المتبادل، وعمادها المودة المشتركة، ومن ثم كانت أحاديثنا ومسامراتنا لا تنصرف إلا لما يتغشى الناس من أحداث، وما يتوسمه العالم من حدثان. وكانت آراؤنا في الحياة - على سذاجتها وسطحيتها - مطبوعة بطابع من الهدوء والبعد عن الاعتساف.
وإذا كنا على سفر، تواعدنا على اللقاء في القطار، ثم تجمعنا الصحبة في المنزل، وقد نتقاسم الغرفة الواحدة في بعض الأحيان، ونشارك في الطعام والشراب، ويمضي معي لشأني، كما أصحبه لفضاء ما يريد.