لما فرغت من مقالات (المجنون) وأرسلت الأخيرة منها، قلت في نفسي هذا الآخر هو الأخر من المجنون وجنونه، ومن الفكر في تخليطه ونوادره؛ غير أنه عاد إلى أخلاطا وأضغاثا فكأني رأيته في النوم يقول لي: اكتب مقالا في السياسة. قلت: مالي وللسياسة، وأنا (موظف) في الحكومة، وقد أخذت الحكومة ميثاق الموظفين لما عرفوا من نقد أو غميزة ليكتمنَّه ولا يبيِّنونه. فقال: هذه ليست مشكلة، وليس هذا يصلح عذرا، والمخرج سهل والتدبير يسير والحل ممكن. قلت: فما هو؟
قال: اكتب ما شئت في سياسة الحكومة، ثم اجعل توقيعك في آخر المقال هكذا:(مصطفى صادق الرافعي؛ غير موظف بالحكومة). . .
فهذه طريقة من طرق المجانين في حل المشاكل المعقدة، لا يكون الحل إلا عقدة جديدة يتم بها اليأس ويتعذر الامكان، وهي بعينها طريقة ذلك الطائر الأبله الذي يرى الصائد فيغمض عينه ويلوى عنقه ويخبأ رأسه في جناحه ظنا عند نفسه أنه إذا لم ير الصائد لم يره الصائد، وإذا توهم أنه اختفى تحقق أنه اختفى؛ وما عمله ذاك إلا كقوله للصياد: إني غير موجود هنا. . . على قياس (غير موظف).
وقد كنت استفتيت القراء في (المشكلة) وكيف يتقي صاحبها على نفسه وكيف تصنع صاحبتها؛ فتلقيت كتباً كثيرة أهدت إلى عقولاً مختلفة؛ وكان من عجائب المقادير أن أول كتاب ألقي إلى منها - كتاب (نابغة) كنابغة القرن العشرين، بعث به من القاهرة، وسمي نفسه في (المصلح المنتظر)؛ وهذه عبارته بحرفها ورسمها كما كتبت وكما تقرأ؛ فان نشر هذا النص كما هو، يكون أيضا نصاً على ذلك العقل كيف هو. . .
قال: (إن هذا الكون تعبت فيه آراء المصلحين، وكتب الأنبياء زهاء قرون عديدة، ودائما نرى الطبيعة تنتصر. ولقد نرى الحيوان يعلم كيف يعيش بجوار أليفه، والطير كيف يركن إلى عش حبيبته، إلا الإنسان. ولقد تفنن المشرعون في أسماء العادات والتقاليد والحمية والشرف والعرض، وإن جميع هذه الأشياء تزول أمام سلطان المادة فما بالكم بسلطان الروح؟