هذا الطريق المرصوف بالحجارة والقار، كم تطأه من الأقدام وكم تمر عليه من الأجسام وكم تسير فيه من النفوس، كل مهتم بشأنه كل سابح في عالمه وأحلامه وكل لاه بأمره عن أخيه الذي يسير بجنبه ويعيش وإياه في بلد واحد ووطن واحد.
يكاد يكون هذا الطريق كتاباً مفتوحاً تقرأ فيه تاريخ البشرية من أقدم عصورها حتى أرقى ما وصلت إليه من حضارة وتقدم، وفيه يشاهد المتأمل كثيراً من الصور الآدمية تعكس له حياة المجتمع الذي نعيش فيه وما به من فوضى واضطراب وما هو عليه من تناقض وتباين.
في بدء هذا الطريق الذي أسلكه كل يوم صورة من تلك الصور التي رسمتها يد الحياة الجائرة بريشة من شقاء وبألوان من فقر وجوع ومرض؛ صورة لا أبالغ إذا ما قلت رسمها فنان وهو في ثورة جنونية فجاءت فنية رائعة تمثل لنا شقاء البشرية في القرن العشرين.
كان لا يتجاوز العاشرة من عمره كفيف البصر؛ ذهب المرض بكلتى عينيه فأفقده نور الحياة وتركه يتعذب ويحيا في عالم من الظلام الحالك ويتخبط في ديجور من الفاقة والذل، ولكنه كان يشعر ويحس ويرى بعقله ما لا يراه كثير ممن أوتوا نعمة النظر؛ أولئك الذين ينعمون في حياتهم، ويسعدون بأحلامهم وآمالهم لاهين عن أمثاله من بني الإنسان ممن ظلمهم نظام اجتماعي فاسد وفوضى اقتصادية ضاربة إطنابها في طول البلاد وعرضها. كان يحس ويشعر لأنه دقيق الإحساس رقيق العاطفة أوتي من الذكاء حظاً وافراً، ومن الفطنة قدراً كبيراً فكأنه أوتي حكمة الشيوخ وهو لم يقرأ كتاباً واحداً. اتخذ من قنطرة بالقرب من (دارهم) ملجأ يلجأ إليه، وكان يسميها دارنا مفتخراً ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى زريبة حيوانات لا تتعدى مساحتها العشرين متراً تضمه هو وأمه وأخوته الخمسة الصغار يضاف لذلك عدد كبير من الدجاج وحمار كان يربط في ساحة الدار.
عند هذه القنطرة كان يرابط كفلنا من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء يؤدي واجبه دون ما كلل أو عناء يؤدي واجبه الذي فرضه عليه أبوه المريض وأمه الجائعة يؤديه بنفس معذبة وروح متألمة لأنه واجب بغيض لهذه النفس الأبية وتلك الروح الحساسة. وطريقته