للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

العبقري الملعون

للكاتب الإيطالي

جيوفاني بابيني

ذهبت إلى براغ مرتين ولكني لم أستطع لقاءه. ففي المرة الأولى لم أجرؤ على التطلع إلى بيته. وفي الثانية لم أهتد إلى منزله الجديد، فقضيت ليلة في تلك المدينة الغريبة أسائل الناس عنه وأنا مسوق إليه سوقي إلى المصير المحتوم.

لقد كنت في تلك الليلة متشبعاً بكلامه وأفكاره حتى أخذت أحلم أحلامه وأغني أغانيه وأتابع تيارات تفكيره وأتمثل نفسي أحد أبطال قصصه. لم أخضع لرجل من قبل كما خضعت لذلك الرجل الغريب الذي يزداد تأثيره فيَّ يوماً بعد يوم حتى لم أعد أفكر قي أمل الخلاص منه. كنت أعتقد أنه أعظم رجل أنجبته أوربا. ففي فنه روعة (بو) وتهاويله، وقوة نيتشه ووحدته، وموسيقى شيلي وعذوبته، وآلام (دستوفسكي) ومرارته فيه حمرة الجحيم وزرقة السماء. فيه طلاقة الطفل وعبوس الشيطان، ولكن شيئاً آخر كان خافياً عليَّ هو عبقريته الفذة التي لم يكن يدركها أو يشرف عليها إلا القليلون. ولم تكن شهرته الذائعة التي نالها في سنين قلائل إلا مجداً خالداً يشدو بذكره. لقد رماه الناس بالكبرياء والنفور، ولكنهم لم يدروا شيئاً عن مؤلفاته ولم يحيطوا بأركان عبقريته. لقد أحببت قصصه إذ كانت كلها سيرة لشخصه من نسج غريب. تزأر أرواح أبطاله وتدوي بين أحزان الحياة ومخاوفها.

لم أستطع أن اكبت ذلك الإعجاب طويلاً، بل أحسست بدافع قوي لأن أراه وأتطلع إلى وجهه واسمع كلمات تخرج من فمه. أردت أن اقرأ في سطور وجهه تلك الآلام العاصفة التي صبها في أبطال قصصه فوطنت العزم على لقائه. وقد ساعدني على ذلك رجل فرنسي قادني إلى بيته، فدلفت إلى سلمه وقد ازدادت دقات قلبي شدة كلما دنوت من الطابق الذي كان يقطنه. وقفت أمام الباب وحاولت الكلام ولكن لساني كان قد لصق بسقف حلقي فوقفت برهة انظر إلى تلك اللوحة النحاسية المنقوش عليها اسمه في حروف كبيرة سوداء فازددت هلعاً ورعباً. وأخيراً استجمعت قواي ومددت يدي إلى الباب أقرعه، فجاءتني

<<  <  ج:
ص:  >  >>