وعدت القراء أن أعود إليهم على صفحات الرسالة الغراء لنجول جولة مع الجارم في شعره علناً نعطي صورة ولو تقريبية لمقدار حظه من هذه الموهبة الشعرية التي يسكبها الله في بعض قلوب عباده فيلهمون القول، ويتفرجون بفيض من الحكمة يصوغونه نظيماً شعرياً يتفاوتون في بلاغته تفاوتاً يخضع لنصيب كل شاعر من التهيؤ والملكة وسعة الإطلاع، فإن الشعر عاطفة وفكرة، وإحساس وخيال، أو هو كما عرفه بعض الغربيين بأنه (الحقيقة التي تصل إلى القلب رائعة بوساطة العاطفة) أو هو (عرض البواعث النبيلة وساطة الخيال):
أو هو كما يقول الجارم نفسه: -
الشعر عاطفة تقتاد عاطفة ... وفكرة تتجلى بين أفكار
الشعر ' ن لامس الرواح ألهبنا ... كما تقابل تيار بتيار
الشعر مصباح أقوام إذا التمسوا ... ثورة الحياة وزند الأمة الواري
الشعر أنشودة الفنان يرسلها ... إلى القلوب فيحيا بعد إفقار
والباحث في شعر الشاعر لن يصل إلى نتائج صحيحة أو يأتي بحثه قريباً من كبد الحقيقة إلا إذا كان (ديوان الشاعر) أمامه لا يفارقه لحظة، يقلب صفحاته، ويتنقل بين قصائده وينعم النظر بين أبياته، ويطيل التأمل والوقوف عند كل معنى من معانيها مراعياً في تقديره وإصدار أحكامه للشاعر أو عليه كل ما أحاط به من ظروف وملابسات خاصة وعامة عندما نظم قصيدته؛ ومقدراً المناسبة التي قالها فيها والغرض الذي يرمي إليه، ثم يخلص من ذلك إلى الجمع بين المتشابه، والتأليف بين المتقارب، ثم يستنبط جمعه ما هو بصدد الوصول إليه من حقائق عامة ونظريات أدبية هامة، ويسوق من شعر الشاعر الشواهد التي تؤيد دعواه، ومن النقاد السابقين أدلة تدعم قضاياه.
والجارم في ثقافته وسط بين المدرسة القديمة التي يمثلها القدامى من أدباء دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وهما مشتقتان من مصدر الأزهر: وهذه المدرسة القديمة ترتكز في دراستها على القرآن وحديث الرسول والآثار القديمة من دواوين الشعراء في عصور