والبحث الثاني في بعث الرسل ذو شقين: الأول إثبات الرسالات - والثاني في أن قد جاء بها إلى الناس واحد منهم ويجب تصديقه. وهذا أيضاً قد أراد المتكلمون إثباته بالقياس والحكم من الشاهد إلى الغائب بأن قالوا إن من حق الملك القادر المريد المتكلم أن يبعث رسولاً إلى عباده، كما أن من واجب الناس متى ظهرت على الرسول علامة الملك وصدق الدعوى أن يصدق ما جاء به. ويعترف أبن رشد أن هذا الدليل (ظهور المعجزة) مقنع ولائق بالجمهور وهو مقصد الشرع - ولكنه يناقش ما يكتنفه من اختلال في أصوله ككيفية معرفة صدق الرسالة بأن يقول لنا الشرع على لسان الله إن من علامات رسلي كذا وكذا - أو أن يستدل العقل من تلقاء ذاته على صحة هذه المعجزة. أما الأول فمحال، وأما الثاني فله مقدمتان: هذا الرسول قد أظهر معجزة: كل من أظهر معجزة فهو نبي - فصدر المقدمة الأولى الحس والتسليم بأفعال حقيقية (لا خيالية ولا وهمية) تظهر على أيدي المخلوقين لا بسحر أو شعوذة - وصحة المقدمة الثانية تتبنى على الاعتراف بوجود الرسل في المقدمة الأولى وبالتأكد من حقيقة المعجزة وصاحبها. ويحمل أبن رشد على مبدأ جعل إرسال الرسل جائزاً في العقل - فإن الجواز جهل وتشكيك في المقدمة الثانية يجعل أن المعجزة يمكن الإحساس بها أو امتناع تصديقها - وباعث الرسول يمكن أن يكون زيداً أو عمراً - فمن طبيعة الجائز أن يكون أو ألا يكون - ونحن نسلم بطرف منه لأنه الذي حدث فعلا ًبينما نجهل الآخر - وكون ما حدث من طرفيه قد كان أولى من الآخر يجعله بعد حدوثه ضروريا وواجباً. وهذا ما يريد لأبن رشد؛ فإن العقل حتى مع هذه الضرورة والوجود لن يأخذ المعجزة دليلاً على الرسالة - مهما كان إلهياً - غل بأن يعتقد أن مثل هذه الخوارق لا تحدث إلا من فاضل غير كاذب ول ساحر. ويعمد فيلسوفنا بعد هذا التطبيق على رسالة الإسلام ومعجزة القرآن - وكونها رغم أنها من جنس الأفعال المعتادة معجزة بنفسها لا يصرف الناس عن الإتيان بمثلها يعني أنها السهل الممتنع.
ويحاول أخيراً إثبات صدق نبوة محمد (صلعم) بحجة من مبدئين: (١) تواتر الرسل قبله