للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين والد وولده]

مثل من الشباب الصالح

عرفت منذ أيام فتى غريض الشباب رقيق الإهاب وضيء الطلمة؛ يتكلم فيشع عقله في معانيه، ويشيع ذكاؤه في مراميه، ويسيل شعوره على ألفاظه؛ وهو لا يتكلم إلا عن العمل، ولا يناقش إلا في الواقع، ولا يرمي إلا إلى غرض؛ طموح النفس فلا يحصر أفقه يأس، ولا يحد غايته مطلب؛ بعيد الهمة فلا يضله شارد الخيال، ولا يغره خادع الأمل؛ رفيع الهوى فلا يشوب غرضه سوء، ولا يفسد طموحه أثره. نبت في أكرم المنابت من إقليم الغربية، فأبوه عميد أسرته، وزعيم بلدته، وسريّ نابه من سراة إقليمه؛ رباه في مهد النعيم، ونشأه في ظلال الغنى، وقلبه في أحضان الترف، فكان خليقاً أن يمسه الغباء وهو داء الغنى، وأن يصبه الخمول وهو بلية الترف، ولكنه لقوة الطبع واستعداد الفطرة شب ذكى الفؤاد إلى درجة الحكمة، مشبوب العزم إلى حد المغامرة؛ يذهب نفسه غالباً إلى الاعتداء الواثق، ويميل بحياته أحياناً إلى الجرأة المؤدبة، وينظر إلى غاية الحياة - وهو لا يزال في بدايتها - نظر الكيّس اللبيب المجرب، فيهاجم السياسيين من ناحية استخفافهم بالخلق، والموظفين من ناحية استهانتهم بالواجب، والفلاحين من حيث اعتمادهم في الإنتاج على القديم الرث، وفي العلاج على القدر والمصادفة. على أنه أمام أبيه - وهو قرة عينه - مثال البر ورمز الطاعة، فلا يفند له رأياً، ولا يعصى له أمراً، ولا يخالف له نصيحة.

تخرج منذ أسبوع في إحدى المدارس العالية، وكان الثاني في ترتيب الناجحين، وإن شئت فقل الأول، لأن الفرق بينه وبين سابقه لا يقدم لضآلته ولا يؤخر، فالوظيفة بحكم أوليته في النجاح ومعونة أسرته بالنفوذ، تنتظر في كل مكان وتطلبه في كل وزارة، ولكنه زارني منذ يومين فوجدته على غير عادته مشغول القلب منقبض الصدر مشترك الخاطر، لا أثر عليه لنشوة الفوز، ولا للذة الراحة، ولا لفرحة المنصب، كأنما هو آخر الدبلوم أو فقير متقدم من غير وسيلة!!

- مالك ساهم الوجه، مكروب النفس يا فهمي؟ هنيئاً لك الدبلوم والأولوية! فقال ولأسى يبين في صوته ولهجته: ليتني لم أنل هذه الدبلوم، ولم أحز خطر هذا السبق؛ فلقد كان في لذة المدارسة، وشهوة المنافسة، وترقب النجاح، وانتظار الحرية، رضىً لنفس الطامحة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>