للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكفاية لقلبي الرغيب. أما الآن فالفراغ يثقل حتى يقتل نفسي، والوقت يطول حتى يمك روحي، والأمل يضيق حتى يظلم حياتي! أريد أن أعمل فيمنعني أبي، لأنه يضن بصحتي على مخاطر الفلاحة، وبراحتي على متاعب الفلاحين، وبسعادتي على هموم المسؤولية

- إذن ماذا يريد لك أبوك؟

- يريد لي الوظيفة! والوظيفة سجن لنفسي الطليقة، وتعطيل لملكاتي الموهوبة، ومحو لمعارفي المكسوبة، وقتل لآمالي الناشئة، وتوجيه لميولي الطبيعية إلى الغرض الذي لا أحب والقصد الذي لا أريد.

إن في مزارعنا الواسعة مجالاً فسيحاً لنشاطي، ومراداً بعيداً لعلمي، ومختبراً صالحاً لتجاربي، ومغرساً كريماً لآمالي فأنا أوثر أن أحمل عبء العمل عن والدي، وأستغل علمي وعملي في تحقيق مقاصدي، فأحافظ بالاستقلال الذاتي على خلقي وحريتي، وأساهم بالعمل المنتج في نفع أمتي وإسعاد أسرتي.

ماذا تجدي عليّ الوظيفة؟ عشرة جنيهات في الشهر؟ لقد كان أبي ينفق عليّ خمسة وعشرين وأنا طالب، فكم جنيهاً ينفقها عليّ وأنا موظف؟ إذن سينفق عليّ أضعاف مرتبي لأخدم غيره، وأفارق بيته، وأظل السنين الطوال موظفاً وضيع المكانة، مسلوب الإرادة، محدود الرزق، خامل الحياة!

إن شهادتي في فن الزراعة؛ والوظيفة الفنية كالوظيفة العلمية لا تصلح طريقاً إلى السلطان، ولا وسيلة للجاه، ولا أداة للثروة؛ إنما الفن مجده في استقلاله، وخيره في حريته. على أن وظائف الحكومة - بعد أن خفضوا أجرها، وأخسّوا قدرها، وحفوا طريقها بالمكارة، وهددوا معاشها بالنقص، وزعزعوا ضمانها بالكيد، ورعوا أمنها بالسياسة - أصبحت مطلباً لقصار الآمال، ومذهباً لصغار النفوس، وملجأً لضعاف الحيلة. فأما الذي يجد في نفسه شعور القدرة، وفي بيته رأس المال، وفي أرضه مكان العمل، ثم يتشوف إلى قيد الوظيفة وذل التبعية، فلا أدري بما أعتذر له أمام النبّل والرجولة؟

فقلت له وأنا موزع النفس بين الإعجاب به والرثاء له والحدب عليه: كلامك هذا يا بني عنوان عقلك وبرهان فضلك ودليل دعواك. وليت شعري ما حجة أبيك الكريم أمام هذا الخلق العظيم والمنطق الواضح! لعله من أولئك الذين يعتقدون أن الولد إذا دخل المدرسة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>