للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين الجد والهزل!]

للدكتور مختار الوكيل

حينما كنت في فرنسا مطلع هذا الصيف، دار حديث ودي بيني وبين رجل من أوسع الناس ثقافة - ولم يكن إنجليزيا ولم يكن فرنسياُ - ولكنه من أولئك الذين يعطفون على مصر عطفاُ حقيقياُ لطول أقامته في ربوعها، ويرجوا مخلصاُ لها النجاح في كفاحها ضد الاستعمار والطغيان. ذكر لي هذا الرجل الكبير خلال حديثه إن مصر - فيما يبدوا للعالم الخارجي على الأقل - غير جادة - مع الآسف - في طلب الاستقلال الكامل وتحقيق الجلاء والوحدة مع السودان

وضرب لي مثلاُ، أو أمثلة على عدم هذه (الجدية)، بما هو مشاهد وملحوظ من تعاون العمال المصريين مع القوات البريطانية في منطقة القنال تعاوناُ يذيع البريطانيون عنه في آفاق الدنيا انه تعاون اخوي قلبي صادق، وإقبال أولئك الشبان المصريين على العمل مع الإنجليز المحتلين إقبالاُ منقطع النظير. ونوه محدثاُ بما هو ملموس من تهافت التجار المصريين على إرسال سلعهم - وفي مقدمتها المواد الغذائية التي يحتاج إليها الأهلون احتياجاُ شديداُ - إلى منطقة القنال، لأن ربحهم من ذلك المورد التجاري عظيم. وفضلاُ عن ذلك فان الإنجليز المحتلين يعتدون في كل يوم تقريباُ على المواطنين المصريين من عمال معسكراتهم، ومن أهل المنطقة المرزوءة بهم، بل ومن أهل القاهرة والإسكندرية والعواصم الأخرى، حينما تطأها أقدام جنود الاحتلال في نزهة أو رياضة، ومع ذلك فلا تحرك مصر ساكناُ، وإن فعلت ففي نغمة الصديق العاتب والمحب المبقي على حبيبه المتجنى!

واستطرد محدثي المحيط بأحوالنا جميعاُ يقول: لقد شبعت حكوماتكم من مفاوضة الإنجليز في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية، وذهبت إحداها إلى مجلس الأمن بعد انقطاع المفاوضة وعادت بقرار من ذلك المجلس باستئناف المفاوضة فتنفس ساستكم السعداء وكأني بهم قد فرحوا بهذا الحل الموفق السعيد!

وأطرق محدثاُ قليلاُ ثم استأنف حديثه قائلاُ.

لو إنكم فعلتم يا أمة الفراعين والعرب، بعض ما فعله اليهود الذين تسمونهم شذاذ الآفاق وتطلقون على دولتهم لقب (المزعومة)، عندما جلدوا الإنجليز جهاراُ ونهاراُ وحبسوهم في

<<  <  ج:
ص:  >  >>