عشت سنين عديدة - أكثر عمري - بالخيال والهم. وكانت دنياي تحد من كل ناحية بجدران مكتبتي ومنظاري المكبر الذي أتدبر به الحياة وأستعين على درسها بقوته وقدرته على الجلاء والكشف والتوضيح، الكتب الكثيرة المرصوصة على رفوفها. وكانت رياضتي حين أكل وأتعب ويبلغ مني الجهد أن أدير عيني في صفوف هذه الكتب التي كنت أنتقي أنفس الطبعات منها وأحسنها ورقا وأجودها جلداً وأحلاها منظراً. فلما صدمتني الحياة - مرة وأخرى - ورأيت أزهار آمالي وورق آرائي التي كنت أحسبها خالدة النضرة دائمة البهجة ولا أظن بها إلا أنها ستظل رفافة أبداً - أقول لما رأيتها تصفر وتتساقط وتذوى وتجف وتتكسر وتنفرك في يدي وتحت قدمي راعني عظم جهلي، وهالني الشعور بالوحدة والوحشة والغربة في هذا العالم الزاخر الذي احتجت برغمي أن أخوض بحره وأرمي بنفسي في عبابه وأنا لا أدري كيف أسبح فيه وأتقي الغرق.
وأنصف الكتب فأقول إنها لم تغشني ولم تخدعني ولم تتعمد أن تزيف صور الحياة، ولكني اقتصرت عليها واستغنيت بها، فصرت لا أرى الحياة إلا بعيون أصحابها، ولا أحسها بغير أعصابهم، حتى ليخيل إلي الآن - من حيث معرفتي يومئذ بالحياة وإحساسي بوقعها وفهمي لها وتجربتي لأحوالها - أني كنت أشبه بكتاب مختارات من جملة ما قرأت وحصلت، ولست بإنسان له وجود وشخصية وكيان مستقل. ومن متناقضات ذلك العهد أني كنت من أعظم الكتاب تحمساً للدعوة إلى تحرير الأدب العربي من رق التقليد وأن كنت أنا لا أعدو أن أكون نسخة مختصرة لكل قديم من الآراء والمذاهب والاحساسات والخوالج. وليس هذا ذنب الكتب وإنما هو ذنبي. على أني لو كنت وجدت من يرشدني لرشدت ولانتفعت بما ضاع من عمري، ولكني لم أجد هذا المرشد والناصح الأمين والقدوة الحسنة لا في المدرسة ولا في البيت ولا في الإخوان، فقد كان شأنهم كشأني، سوى أنهم كانوا أحكم مني وأرشد بطبيعتهم وأهدى سبيلاً، فلم يقعوا فيما وقعت فيه ولم يضيعوا مثل ما ضيعت من عمري.
وأحسست بخيبة الأمل والضيعة في كل ناحية، فاسودت الدنيا في عيني وخامرني اليأس، وظهر ذلك في كل ما عالجت من فنون الأدب وألوانه، وهجرت العمار إلى الخراب،