وانتقلت من المدينة الحية التي تعج بالناس وتزخر بالحياة إلى الصحراء المنقطعة ورمالها الصفراء وجدبها الرائع وفضائها الرحيب وسعتها العقيمة، لأني رأيت أنها أولى بي، وأن المقام في خرابها العظيم أرفق بنفسي المتهدمة وآمالي التي درست وهماتي التي فترت.
وتعاقبت السنون - أربعة عشر عاماً كاملاً - وأنا أجد الأنس بالصحراء والروح فيها والراحة بها. نعم كنت أنحدر إلى المدينة كل يوم وأرى الناس وأعمل معهم وأكد وأسعى، ولكني كنت لا أشاطرهم شعورهم بالحياة وإن كنت لا أثقل عليهم بما أحس. وكنت أكون معهم، ولكني بقلبي وعقلي مع الصحراء، فلا أكاد أعود إليها حتى أحس أن حجراً قد انحط عن صدري وأنه صار في وسعي أن أتنفس وأن أنضو ما أتكلفه مع الناس وأواجه حقيقة نفسي التي أضمرها وأخفيها عن العيون واسترها حتى لا أوذي الناس بها.
ولكن الصحراء معدنها خصب وإن كانت ظاهرة الجدب حتى لتبدو كأن لا أمل فيها، وإن قلبها العامر وإن كانت في رأى العين خواء قواء. وإن الاحتمالات التي تنطوي عليها لأكثر من أن يأخذها حصر، وما ينقصها إلا أن تساعفها الأحوال. وهل مصر كلها إلا صحراء جرى فيها نهر واحد فانقلبت من جنات الدنيا؟ فهذه الصحراء أيضا جنة مضمرة وفردوس مكنون.
وصار مجرى هذا الخاطر في نفسي عميقاً على الأيام، فقلت لنفسي في خلواتي الكثيرة بها: إن هذه الصحراء فيها قوى مستورة مقيدة تنتظر الانطلاق، وخصباً محجوباً لو وجد ما يظهره لربا فيها النبات واهتز ورف وزكا. وأنا أيضاً مثلها. ولم لا؟ أأكون أعقم وأجدب من التراب والحصى والرمال الصفراء؟. . . وقد انتشرت على سطح نفسي طبقة كثيفة من القنوط غطت ما انطوى عليه من الزكاء والطيب والريع الكثير الوفير، وما أظن بها إلا أن فيها خمائل أمل مدفونة ورياض خير أحسبها على الرغم من كل شيء لا تزال مخضلة يترشش نداها. وإن النفس لأقدر - أو هي ينبغي أن تكون أقدر من التراب على تربيت الندى وحفظه وادخاره. وإذا كانت تربة بعض النفوس مبكاراً فليس بضائري أن تكون تربة نفسي مئخاراً. وما يمنعها التأخر بعد أن تبشر ويخرج نباتها أن يسرع ويطول ويقوى. وإذا كانت هذه الصحراء تنتظر أن يجيئها الغوث من الخارج فان النفس غياثها فيها. وللصحراء السحب التي تجري الماء على وجهها، وللنفس مدد كاف من حيويتها التي