للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هي في أعمق أعماقها. وأحسب أني لو حفرت في هذه الأرض لبلغت الماء ولو بعد عمق كبير. كذلك أحسب أني لو مهت نفسي وحفرت فيها لوقعت في بعض أعماقها على ماء غير قليل؛ وسأحتاج أن أرمي التراب وأخرج الطين والحجارة وأن أنكشها من حين إلى حين حتى لا تعود جميعها فتتجمع وتسدها مرة أخرى.

واقتنعت بذلك وصح عزمي على إن من الواجب تنقية نفسي - أو بئرها - مما سد منابع الماء في أعماقها المجهولة، فأعددت العدة لذلك وجئت بالعتلات والمعاول والمجارف والحبال والمقاطف والدلاء إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه المرء في الحفر. وقلت لنفسي: (اسمع يا هذا. . . إنك لا تستطيع أن تحتفر إلا إذا وسعت، فما تدري أقريبة المنزع بئر نفسك هذه أم بعيدته؛ والأرجح أن تكون بعيدة وأن تكون قد تكدست فوقها أكوام شتى وطبقات متراكبة من أوحال السخافات المختلفة المتعددة التي عشت بها هذا العمر كله. فيجب من الآن - وقبل الشروع في الحفر - أن توسع صدرك وتوطن نفسك على الشك في كل ما أخذت به من الآراء والمذاهب، أي على اعتبار أن كل ما كان عندك بمنزلة العقائد التي لا تقبل الجدل يجب أن يعاد بحثه بغير هوى، وإلا كان ما يوشك أن تحاوله الآن من الحفر عملا لا خير فيه ولا جدوى منه، وأولى بك حينئذ أن تنصرف عنه. وكما أن الذي يحتفر بئراً لا يستطيع ذلك إذا هو اجتزأ بثقب ضيق إشفاقاً على الأرض أن يفسد منظرها بتوسيع الفوهة وأن يشوه استواءها، كذلك أنت لا تستطيع أن تصل إلى شيء إذا كنت ستصر على آرائك القديمة، فاضرب فيها كلها بمعولك وانظر كيف ثباتها، وهل تحتمل ذلك أم تتناثر وتتبعثر ذراتها وتنقلب ترابا يطير كالهباء، وهذا أول ما ينبغي أن تروض وتوطن نفسك عليه وإلا فتعبك ضائع مع الرياح الأربع.

ولم أجد لي معدي عن الرضى بمراجعة النفس وإعادة النظر بغير هوى في كل ما كنت أعده من الحقائق المفروغ منها. فقلت لنفسي: (يجب أن أبداً من البداية. والبداية هي أني خلقت لأعيش وأعطيت الحياة لأحيا. وهذا من البدائه، إذ لا يعقل أن أكون أعطيت الحياة لأرميها للكلاب، وإلا فلماذا أعطيتها إذن؟ وما دام الأمر كذلك فأن واجبي الأول هو أن أعيش وأحيا، وأن أحرص على الحياة وأضن بالعيش أن يفسده شيء بقدر ما يدخل هذا في الوسع. ثم إني لم أعط حياة الأبد، وإنما أعطيت حياة محدودة لها آخر كما لها أول، وهذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>