للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يضاعف وجوب الحرص عليها والضن بها على المفسدات، لأنها فضلاً عن القصر يسهل زوالها ويضيع معناها بسوء الرأي. وعلى إذن أن أنفي من جوها كل ما ينغص هذه الحياة أو يقصر عمرها أو يفسد فترتها. وأول ما ينغص هذه الحياة ويضيع معناها ويفسد الغاية منها ويعكس الآية فيها ويقلبها عذابا وجحيما، هذا الأدب الذي جننت به وضيعت خير شطر من عمري فيه. وما هو الأدب على كل حال. .؟ هو شيء - أعني كلاما - يحاول صاحبه به أن يوهم الناس أنه خير منهم وأرقى وأذكى وأفطن وأحس وأعلم، وأن خطوهم وراءه بأجيال إذ يخطو هو على مهل. ثم يرتقي المرء من إيهام الناس إلى إدخال الوهم على نفسه هو فيزعمها خالدة باقية على الزمن بآثاره - أي بالكلام الذي يصوغه - على حين تفني كل هذه الملايين من معاصريه وممن جاءوا قبله ومن سيجيئون بعده. فلماذا بالله يخلد كلامه وحده دون كلام هذه المئات العديدة من الملايين في كل أمة وكل زمن؟. . . ثم كيف يتاح هذا الخلود في حياة قائمة على الفناء المحقق؟. . . وليس الخلود ألف سنة ولا ألفين ولا ثلاثة ولا أربعة أو أكثر. . . وانظر من ذا الذي خلد إلى الآن. . . وفكر في أمل الذين نذكرهم إلى اليوم في دوام الذكر على الزمن. . . وإذا كنت الآن أعجب لشيء فإني أتعجب لذلك الذي يستطيع أن يفهم الخلود ويقنع بما فهم من معناه نفسه.

وأعترف بأني كنت أومن بالخلود في هذه الدنيا الفانية، ولكني أعترف أيضا أنها كانت عندي كلمة حلوة أرتاح إليها وأحس لها ندى على النفس وبردا على القلب من غير أن أدرك لها معنى محدوداً جلياً. وإذا كان هناك من يؤمن بهذا الخلود فيخيل إلى أنه إما أن يكون شاباً لم يعان الحياة ولم يواجه حقائقها، أو هو رجل لا يزال قادراً على مغالطة نفسه أو على الإيحاء إليها، أو فيه لوثة تمنع أن يجيء تفكيره مستقيماً؛ وقد يكون هناك غير هؤلاء فما أدعى الإحاطة ولا ما هو قريب منها. وبدا لي وأنا أفكر في هذا أن من السخف أن يتصور المرء أنه سيخلد بآثاره لا لسبب إلا أنه نشر كتاباً وأن الصحف أثنت عليه ومدحته. كأن الأجيال المقبلة ستعقم صحفا وكتابا هم أقرب إلى نفسها ومزاجها وأساليب تفكيرها وإلى احساساتها واتجاهاتها ونزعاتها من كتاب الجيل الذي مضى أو الأجيال التي اندثرت. وغريب أن يعتقد إنسان إن آراءه وأساليب تفكيره وكتابته الخ تظل هي الحبيبة الأثيرة إلى كل عصر على الأزمان كلها!

<<  <  ج:
ص:  >  >>