للباحثين في تاريخ الفلسفة مذاهب كثيرة وطرائق مختلفة. فجماعة يرون إن واجب المؤرخ ينحصر في دراسة الأشخاص وتفصيل القول في حياتهم وبيان الظروف المحيطة بهم والعوامل الداخلية والخارجية التي أثرت فيهم. ولا يعنون عناية كبيرة بأفكارهم في نشأتها وتكونها وارتباطها بالآراء والنظريات السابقة واللاحقة. على أنهم إن تعرضوا لهذه الأفكار نظروا إليها منعزلة عما حولها، وبدت في أيديهم كأنها وحدة مستقلة وحلقة منفصلة عن سلسلة التفكير الإنساني. وهناك طائفة أخرى تؤمن بأن الفلسفة دائمة وأن الأفكار الفلسفية في مختلف العصور متصلة الحلقات مرتبط بعضها ببعض. فيجب على الباحث إذن أن يبين مقدار تأثر الخلف بالسلف وما زاد التلميذ على الأستاذ. وليس بكاف أن يقال إن فيلسوفاً ما جاء بفكرة معينة، بل لا بد من البحث عن أمهات هذه الفكرة وجداتها القريبات أو البعيدات، وعن بناتها وبنات بناتها إن صح أنها أعقبت في الأجيال التالية؛ والأفكار كالأشخاص ذات تاريخ يطول ويقصر وحياة متنوعة الألوان والأشكال، ففي حين أنه يقدر لبعضها الخلود قد يقضى على بعضها الآخر بالإهمال والنسيان.
وفي رأينا أن الدراسة التاريخية الكاملة تستلزم الجمع بين هاتين الطريقتين؛ وكي تفهم الأفكار فهماً صحيحاً يجب أن تدرس على ضوء حياة أصحابها والبيئة التي تكونت فيها، ولا يمكننا أن نقدر الفلاسفة والمفكرين حق قدرهم وننزلهم في المنزلة اللائقة بهم إلا أن تتبعنا أفكارهم في مختلف أدوارها وأثبتنا ما أنتجت من آثار. وكثيراً ما أعانت الأفكار على توضيح نواح غامضة في حياة مبتكريها أو القائلين بها.
وسيراً على هذه السنة قد بدأنا فعرضنا نظرية النبوة كما تصورها الفارابي، وحاولنا أن نبين الأسباب الاجتماعية والدينية التي دفعته إليها، والمناقشات اليومية والأبحاث النظرية التي ولدتها، ثم صعدنا إلى أصولها التاريخية ووضحنا العلاقة بينها وبين بعض الآراء