للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حب المنطق]

للأستاذ ثروت أباظه

صاحبي شاب تواتيه الحياة بأبهى ما يرجو شاب من الحياة. مال وافر، وسمت جميل. وهو بعد ذو روح فنانة عذبة. لم تمل به كل هذه المقومات إلى ما ينزلق إليه الشباب، بل كان منذ مطلع شبابه كبيراً على اللهو، يرى فيه طفولة غير جديرة به. وما زال كذلك حتى بلغ سنا يفاخر فيها الشباب بآثامهم؛ فكان يجلس إلى أترابه، يقص كل منهم عليه ما أرتكب في زهو. بل كان منهم من يخلق لنفسه جرائم كان يعلم صاحبي أن محدثه براء منها. ولكنه كان يسعده بتصديقها فيسعد. ثم يقبل هؤلاء الأتراب على صاحبهم يسألونه ما فعل وما يفعل، ظانين أنه سيقص عليهم ما يعجزون هم منه. . . وهو ذو السمت الجميل والمال الوافر. وكم تفيد هاتان الخلتان إذا شاء صاحبهما منهما إفادة! ولكن صاحبي كان دائماً يخيب ظنهم، ويعلمهم أن أمره غير أمرهم، فيعتقدون أنه كاذب في ادعائه، ويظن بعضهم أنه شديد الدرجة والمران. ومن تمام المران ألا يخبرهم بما فعل. ويحاول بعضهم أن يظن بصاحبي سذاجة؛ ولكن سرعان ما يرده عن تفكيره بديهة فيه متوثبة، وسخرية لاذعة كان يقابل بها كل من يحاول من أمره عبثاً.

كنت وحدي أعلم السر في ذلك، وما كان لي أن أدعي بهذا معرفة لولا أنني عرفت الصديق طفلا حين كنت أنا طفلاً، ثم درج ودرجت معه متلازمين لا نفترق إلا الفترة الوجيزة، فهو في غير حاجة إلى أن يطلعني على سر استقامته. لقد نشأ الطفل في بيئة تجعل من الطفل صبياً، ومن الصبي شاباً، ومن الشاب كهلا. فتراه في طفولته يجلس إلى قوم يكبرونه في السن. ولم تكن الطبيعة قد هيأت له إذ ذاك أن ينظر نظرة منحرفة. . فإذا مال بهم الحديث رأى في كلامهم وجهاً غير الذي يجرونه عليه حتى إذا كبر قليلاً وفهم ما كان يقال على وجهه، كان رفاق ندوته قد ملوا هذا الحديث وشبوا عنه، فسار معهم حايسا كلاما، كابتاً شعوراً. . . لا يفضي إذا أفضى إلا لنفسه.

هكذا كانت الحياة ترتفع به عن مكان سنه؛ وهكذا اضطرته أن يرتفع عما يفعله أترابه. فكان في شبابه كهلا واسع الأفق، يجيد كلام الرجال، ويحس ما يحسنون. ولكن أمراً واحداً كان يحيرني فيه. . . قد يستطيع الشاب أن يستقيم فلا يلتوي به الطريق، ولكن هل يطيق

<<  <  ج:
ص:  >  >>