نحن هنا في البلد الذي خرج فيه إلى نور الوجود. ونحن هنا في البلد الذي رجع فيه إلى ظلام العدم!
نحن هنا في البلد الذي قدم إليه المهد مزبناً بأوراد الربيع، مشرقاً ببسمات الحب، محفوفاً بنظرات الأمل؛ ونحن هنا في البلد الذي أعد له اللحد مكللاً بأزهار الخريف، مللاً بعبرات الأسى، مودعا بحسرات الذكرى!
نحن هنا في البلد الذي نشأ علياً على حب الجمال، وهيأ علياً لرسالة الشعر ووجه علياً إلى طريق المجد. وضرب فيه على السمع الواعي، وحكم فيه على اللسان البليغ!
من هذا الشاطئ شاطئ المنصورة ركب الملاح زورقه الهائم، ثم مخر به العباب في خضم الحياة. تارة يختفي، وتارة يظهر. فإذا اختفى غاب مع (الأشباح والأرواح) في جزر الأرخبيل أو على جبل الأولمب؛ وإذا ظهر شوهد على سواحل كليو باترا يردد اللوعة والأنين، أو على جندول البندقية يرجع الشوق والحنين، أو في بحيرة كومو
بمجد الحب والجمال في صور الناس ومجالي الطبيعة.
وكذلك كان في كل بحر يجري فيه، وفي كل ساحل يدنو منه: يرسل الأنغام العذبة من قيثارة المرح، ويبدع الصور الجميلة بريشته الفنانة، وينقح الصدور المكروبة بنسماته الشعرية السحرية التي تسري هموم النفس وتهوٌن متاعب الحياة.
ثم غام الأفق في وجه الملاح، وثارت الأعاصير على جوانب الزورق، فكلت الذراع وسكن المجداف وتمزق الشراع. وفي يوم من الأيام السود ألقى في ساحل المنصورة حطام الزورق وجثة الملاح
وفي حفرة ضيقة من القبرة المنهومة ثوى القلب الكبير، وذوى الأمل النضر، وهمد الجناح المحلق.
في هذا البلد الوفي الحبيب عرفت علي طه وأحببته، منذ تسعة وعشرين عاماً وأحببته منذ