عرفته. كان لقاؤنا الأول على هذه الضفاف الخضر في أصيل يوم من أيام أغسطس من السنة الحادية والعشرين من هذا القرن. وكان علي لا يزال طالباً في مدرسة الفنون والصناعات، يكابد ألم التناقض بين ما وجه إليه بالفطر، وما جمل عليه بالاكتساب؛ بين النوازع الأدبية التي يجدها في نفسه، والمسائل العلمية التي يتلقاها في درسه؛ بين الناس الذين يتخيلهم في الذهن، والناس الذين يتمثلهم في الخارج؛ بين مطالب الجسد التي تربطه بالأرض، وتوازي الروح التي تجذبه إلى السماء.
كان يقضي طرفي نهاره في قهوة ماتيو بشارع البحر ينظر في كتاب مرة، ويكتب في ورقة مرة؛ ثم يذهل عن الكتاب والورقة ويرسل بصره إلى الأفق البعيد، ثم يرده إلى نفسه وينطوي عليها انطواء الفيلسوف المفكر أو الشاعر الحالم. فإذا جلس إليه أحد ثقاته أخذ ينفس عن صدره المكظوم بالحديث عمن يحب أو بالشعر فيمن يحب. وحبه يومئذ كان حب الفنان الخيالي يجعله بالتنزيه والحرمان منبعاً للألم ومبعثاً للشكوى ليرهف به شعوره ويغذي عليه شعره.
قلت له ذات يوم: ما بالك يا علي وأنت في زهرة العمر ونضرة الصبى حزين الشعر ضائقاً بالناس والحياة؟ فهل تشكو من مرض؟ فقال علي، وما زلت أذكر ما قال: إنما أشكو مرض الاغتراب. يخيل إلي أني من قوم آخرين ومن بلد آخر، فإنا لا أزال أشتاق إلى القريب المجهول، وأحن إلى الوطن النازح. ويشتد بي النزوح أحياناً فأتمنى لو أطير، وأن ضلوعي قفص من حوله يأبى أن ينفرج.
ثم انقضى ذلك العهد وانقضت معه تلك الحال الغريبة. ودخل علي في زحمة الحياة وغمار المجتمع فأزدهر الوجه الشاحب، وانبسط المحيا الكثيب، وابتسم الشعر الحزين؛ وتشعبت في نفسه أصول الجمال والحب، فامتد في نظره الجمال إلى العمل والخلق والسلوك، واتسع في قلبه الحب للخير والأخاء والمروءة. ولذلك عاش ما عاش في سلام نفسه، وعلى وثام منع الناس.
وتأكدت بيني وبين علي أسباب المودة فعرفته في جميع حالاته، وخبرته في أكثر ملابساته، فلم أره يوماً قبض يده عن معروف، ولا بسط لسانه بأذى، ولا طوى صدره على ضغينة.
كانت لذته في أن يفعل الخير لأنه إنسان بفطرته، وكانت متعته في أن يقول الشعر لأنه