انتهى الأستاذ حسان جلال - وهو محام تحت التمرين - من كتابة المذكرة القضائية - التي شرع ينشئها منذ الصباح الباكر - في تمام الساعة الثانية عشر وكان الجهد قد نال منه كل منال فأستند إلى ظهر كرسيه في إعياء ونصب. ومد يده إلى فنجال قهوة وأرتشفه وهو ينظر إلى الأمام بعينيه يوشك أن يلتقي جفناهما. ودخل الخادم عند ذاك فأقبل على سيده وبصره بخطاب كان تركه على المكتب قبل ساعة وشاب مستغرق في عمله. فألقى عليه نظرة فاترة، وتناوله بغير اكتراث، ولكنه حين وقع بصره على الخط المكتوب به العنوان حدثت في وجدانه صدمه عنيفة مباغتة أرهفت حواسه وأثارت انفعاله وأقلقت باله، فالتمعت عيناه بنور خاطف وبدأ شخصاً جديداً. عرف الخط من أول نظرة فتأمله بدهشة وكأنما ينظر إلى وجه كاتبه في ضوء النهار، فلم يرى خطاً ولكن رأى وجهاً مستديراً كالبدر، خمري اللون، تدل قسماته الدقيقة على الأناقة والملاحة. وغشيه الانفعال ساعة لا يدري من أمره شيئاً. ثم جذبه الخطاب من العالم الداخلي الغارق فيه، ولكنه لم يطع لأول وهلة الدواعي الدفينة التي تهتف به أن يفض الغلاف، وأبقاه على يديه وجعل يديم النظر إليه في شغف ولذة وارتباك وخوف. وقد فرح به وحزن ورضي عنه وغضب. وتساءل في حيرة أيصح أن يطلع على ما فيه أم الأولى له أن يطرحه في سلة المهملات؟. . . على أنه كان يتساءل ويداه تفضان الغلاف بسرعة وتبسطان الخطاب. وما لبث أن قرأ مطلع الكتاب، وهو (عزيزي حسان) فلم يستطع أن يستمر في القراءة واستولت عليه خواطر وشجون، وأحس بخيبة لم يهون من شأنها أنه كان يتوقعها. كانت إذا كتبت إليه في ما مضى تبدأ خطابها فتقول:(حبيبي حسان) أما اليوم فأنها تتجنب هذه الكلمة الساحرة، ولعله دار بخاطرها ما يدور بخاطره الآن حين همت بالكتابة إليه فليس إبدال حبيبي بعزيزي بالشيء الهين، وإنما هو حدث من الأحداث وفجيعة من الفواجع. رباه. . . لماذا تراسله وتجذب أفكاره إلى واديها فتنكأ جرحاً في فؤاده أوشك أن يلتئم وتثير بركاناً كاد يخمد بين جوانحه؟ وتنهد من أعماق صدره وكر بعينيه الحالمتين إلى صفحة الخطاب، وألقى عليها