نظرة عامة، فأدرك إيجازها (التلغرافي) وأحس بذلك بكآبة خفية وانقباض صدر، وكأنه كان يرجو لو أنها أطالت وأسهبت. ثم قرأ ما يلي:(راودت نفسي مراراً على الكتابة إليك فكانت تتمتع وتتأبى حتى كدت أسلم لليأس بعد أن تقادم الفراق، وبعد أن نالني من تغاضبك ما نالني، لولا سؤال حيرني إدراكه فرأيت أن ألقيه عليك عسى أن يكون لديك الجواب عليه. أني أسأل لماذا هذا الجفاء؟ ولماذا هذا الهجران؟ هل دعت إليهما دواع معقولة؟. . . فإني أخشى أن يظل كلانا يتعذب لغير سبب. . .)
ورفع رأسه عن الخطاب وقد ثقل تنفسه ويبس حلقه. وحملق إلى لا شيء بعينين مظلمتين. يا له من سؤال! أليس يحق لها أن تسأل كما يحق له أن يسأل: لماذا هذا الجفاء؟. . . لماذا يتباعدان؟ لماذا يعانيان الآم والعذاب في صمت وعناد قرابة عام طويل وثقيل؟ آواه! كم كان يحبها وكم كانت تحبه! وأن آي ذاك الحب لتبدو لعينيه خلل الذكريات كما تبدو المشاهد الغارقة في الظلماء على ضوء المغنيسيوم فأنه ليذكر إخلاصها ومودتها وشدة وفائها، وكأنه كان يرى تألق عينيها حين تراه، أو يسمع تنهدها لدى قربه وعطفه. كانا يعيشان في غمرة الحب ذاهلين عن كل شيء سوى أمالهما الناظرة، ومع ذلك قضى أن يتباعدا ويتفارقا ويذوقا مرارة الهجران والألم الجفاء؛ وكان هو البادئ ولعله كان الظالم. وعلى أي حال فقد استسلم للأوهام فلم تجد هي سبيلاً إلا أن تلوذ بالصمت والصبر. لماذا هذا كله؟. . . على أنه كان في تساؤله متجاهلاً متبالهاً. وكان بذلك عليماً فذكريات الأمس من القوة والعمق بحيث لا يمحوها اليوم ولا الغد. وقد دعت أشجانه إلى ذاكرته صورة أخرى عزيزة حبيبة طالما سكنت قلبه محوطة بالعطف والإجلال حتى أنتزعها القبر بقساوة ولم يترك له منها إلا طيفاً رقيقاً يجفل من ضوء النهار ومشاغل الدنيا ويتسلل في رفق إلى الذاكرة في فترات الأحلام والحنين. جاءته بوجهها الذابل المكال بالشيب ونظرة عينيها الحنونة، فتنهد حزيناً كئيباً وتمتم قائلاً:(أماه). . . نعم هي أمه العزيزة التي قضى حبه إياها على سعادته وآماله، وفرق بينه وبين حبيبته وترك كلاً لوحدته وآلامه. . .
وارتدت عيناه إلى صفحة الخطاب تقلقان بين أسطرها التي اقتضبها الحياء؛ واختزلها الحذر والكبرياء، فلم يجد سوى هذه الكلمات: (سأنتظرك أصيل اليوم في مكاننا المعهود بالحديقة الأندلسية؛ فإن أنت أتيت لكي نصفي الحساب - أي حساب يا ترى؟ - رحبت