بك؛ وإن أنت أصررت على الجفاء فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد)
ويلي ذلك الإمضاء المحبوب: حسان. ج. وكان أول ما فاه به بعد تلاوة هذه الكلمات أن قال باضطراب:(أصيل اليوم في مكاننا المعهود) وأحس بدنو الموعد فاهتاج شعوره واضطرم صدره، ثم أستقر بصره على هذه العبارة:(فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد. فجفل منها وذعر، وأنقبض صدره؛ ألم يجعل فراق سنة هذه العبارة حقيقة واقعة!؟ أولم يكن يظن أنه نفض منها يديه إلى الأبد!؟. . . بلى، ولكن ذاك الخطاب رده إلى ماضيه بسرعة فانبعثت فيه حرارة كما تنبعث فيه حرارة كما تنبعث الكهرباء في المصباح بعد سريان التيار إليه. وضاق عند ذاك بمقعده بالمكان، فاعتزم مغادرة المكتب الذي يتمرن فيه وطوى الخطاب وارتدى طربوشه ومشى إلى الخارج. وفي الطريق أرتد خياله إلى الماضي يتعقب حوادث الأمس المنطوي. . . لا يدري بالضبط متى تعرف بإحسان وإن كان يشعر أنها تملأ ماضيه جميعاً، ذلك أنه لم يعتد مطلقاً عادة كتابة المذكرات، فسجلت ذاكرته الحادثات بنسبة تأثرها بها لا على حقيقة وقوعها، ولكنه يذكر بغير ريب أنه في صيف العام الماضي سكنت أسرة إحسان في عمارة رقم ١٠ بشارع البستان بالسكاكيني، وأنه تعرف بالفتاة قبل أن يمضي شهر على نزولها بالحي الجديد. وقد جعلت المقادير حجرة نومها تجاه حجرة نومه، فتهيأت لكل منهما الفرص لتذوق صاحبه وتقدير مزاياه. وجذبته بادئ الأمر ملاحتها وأناقة قسماتها، فانجذب إليها ينشد الحب واللهو والعبث، وما يدري إلا وقد بهره ذكاؤها ورقة روحها وأنوثتها الناضجة، فأحبها الحب الصادق، وتعاهدا مخلصين أن يكون لها وأن تكون له ما أمتد بهما العمر. وشاركا المحبين حياتهم الهنيئة التي تطرد في هدوء بين المناجاة واللقاءات والوعود والآمال كأنها جدول صاف يشق حقلاً من بدائع الورود والرياحين إلى أن كان يوم عادت أمه فيه من إحدى الزيارات تكيل الذم لفتاة التقت بها لأول مرة في بيت جارتها. فدفعه حب الاستطلاع إلى السؤال والتحري فإذا بالفتاة فتاته دون غيرها، وإذا بأسباب غضب أمه عليها أنه دار حديث بين السيدات عن أعمارهن. ولما سئلت أمه عن سنها قالت: (كنت أبنه عشرين أيام الحرب) وكانت تعني الحرب الكبرى ولكن إحسان تساءلت بخبث تعقب على قول السيدة - وهي تجهل أنها أم حبيبها -: (حرب عرابي يا تيزة) وضحك السيدات طويلاً وضحكت إحسان كذلك ولم تكن