كان للقيان في العصر العباسي الشأن العظيم والمنزلة العليا. ولم تشغل الحرائر ما شغلته القيان في الأدب والتاريخ والاجتماع، ولم يكن لهن ما كان لأولاء من أثر في تهذيب النفوس وصقل الطباع وانتشار المجانات؛ إلا من أوتيت منهن الإمارة والجاه والسلطان، شبيهات علية وزبيدة والعباسة والخيزران.
وقد خلا الأدب من صور المخدرات، ولكنه رف بكثير من صور هؤلاء الجاريات؛ ففيه عنهن أشاوى حسان، وأحاديث ظراف، وأوصاف بارعات
ولم تبلغ القيان هذه الرفعة وتلك المنزلة إلا بعد الجد والجهد، والتعليم والتلقين، والصقل والتهذيب؛ فكن يتخرجن على المغنين الكبار أشباه الموصلي وابن المهدي، ويحذقن العزف والضرب، ويتفقهن في العربية، يحفظن نوادر الأحاديث وفرائد اللغة، وأمالي المجالس وشوارد الأشعار؛ ثم يبر في إظهار الأناثة والدل، حتى تصبح الفينة مصدر غواية وفتون، ومثار دعابة وفجور، وبهجة الأرواح ومنية النفوس؛ فلا غرو إن أقبل عليهن الشيخان والشبان، ولا عجب إن هن أتقن فن العشق وأصابت سهامهن قلوب الأبعاد والأحباب.
وقد ألفوا عنهن رسائل حسانا، منها رسالة القيان للجاحظ، وكتاب القينات لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكتاب القينات للمدائني، وكتاب القينات ليونس بن سليمان المغنى، وغيرهن كثار.
على إنه لم يصل إلينا من هذه الرسائل كلها غير رسالة الجاحظ التي ذكر فيها الكثير من أحوال القيان وطبائعهن وميولهن وأخلاقهن وطرقهن في الإغواء. وقد خصهن أبو الطيب الوشاء في كتابه (الموشى) بفصل ممتع عن عشقهن وغرامهن، زاد فيه على ما ذكره الجاحظ وأفاد.
وقد لا تجد في أدبنا العربي صفحة أكثر متوعاً وأبرع وصفاً وأشد دقة من وصف الجاحظ والوشاء لعشق القيان، والحيل التي يتبعنها لاستمالة الشبان، والسبل التي يسلكنها لطردهم إذا نفذت دنانيرهم وأفلسوا. فلقد بلغا في وصفهما الذروة التي لا تسامي، والغاية التي لا