لم يعد خافياً على من كان له قلب أن الشواهد على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أسطع من فلق الصبح، ولكن لا بأس أن نسوق هنا شاهداً جديداً مر عليه أكثر الناس مؤرخين، وقد سخروا منه حينا، واستطابوا السمر به في أحيان كثيرة، ولكن ما أظن أحداً منهم - على مبلغ علمي - فطن إلى المعنى الأصيل، أو كشف عن السر الإلهي الذي كمن في دعوى المتنبئين. ولا شك عندي أن التنبؤ كان من الدلائل الواضحة على صدق النبوة، وهل أدل على وجود الشمس من تضاؤل أشعة المصابيح أمامها؟ وما كان هؤلاء المتنبئون إلا كالأعلام المنصوبة على رأس الطريق تدعو الناس إليه، وتزعم أنها ترشدهم إلى المنهج القويم، فمن الناس من سلك ولكنهم لم يبعدوا حتى وجدوا الصخور والأشواك، وما لا قبل لهم به من حشرات الأرض وأفاعيها. وحينئذ استيقظت أحاسيسهم، وأدركوا خطأهم ورجعوا إلى الأعلام فحطموها، ولكن بقيت منها أشلاء تنادي كل سالك بأن الطريق المستقيم ليست من هنا ولكنها من هناك. . . هناك الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت، ولا أشواك ولا حشرات. ولقد ظهر المتنبئون في الجزيرة العربية ظهور السراب الخادع، فكان من العرب من وثق ببرهان عينيه، وأيقن أنه السراب، وإنما يخيل له، وأن طريق الماء ليست إليه. ومنهم من انخدع - عن جهل أو عن علم - فسار، ولكن بعد أن حفيت قدماه، ونهكهت أعصابه، ما وجد إلا سراباً يقول له واضحاً صريحاً: إني لست ماء فالتمس الري عند غيري. وكان هذا السراب - لمن سار ولمن لم يسر - شاهداً لا سبيل إلى الشك فيه على أن الماء في غيره. . هكذا كان شأن المتنبئين. .
ومن عجب هذا الأمر في الغرب أنه لم يدعه منهم من كان يظن أن يدعوه، فقد كانت طبيعة الأشياء تقضي بأن يتنبأ رجل كأمية بن أبي الصلت، فإنه هيأ نفسه لتلقي الوحي، فدان بالحنيفية ملة إبراهيم، وقرأ الكتب المقدسة وكره عبادة الأوثان، وأخذ نفسه بالفضائل فحرم الخمر والزنا والميسر، وخالط الأحبار والرهبان، وتزيا بزيهم، وأظهر التأله، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها حتى يجيئه - زعم - الوحي، فلما ظهرت النبوة في قريش،