منذ أن غردت أم كلثوم. تلك القصيدة الفذة (سلو قلبي غداة سلا وتابا) لأول مرة وأنا أشعر أن القلم يريد أن يسجل شيئاً لا يد من تسجيله إزاء ما تجلى في هذه الأغنية من البيان الرفيع والموضوع الكريم والتلحين الشرقي الخالص.
غير أن الأيام قد ذهب مطلها بالقلم مذاهب النسيان والإبطاء، ولكن ما تتأذى به الآذان كل يوم من الأغاني التافهة المسمومة يلح علي بذكرى هذه الأغنية والتنويه بها، ولفت أنظار وزارة الشؤون ومحطة الإذاعة بما يحب قوله تعليقاً على هذا الحادث الأول من نوعه في أغاني أم كلثوم، بل ربما في أغاني هذا الجيل الذي احتملت أعصابه من سموم الأغاني التافهة المسمومة الساقطة ما سمم المنابع وأسقط الهمم وأفسد الذوق وأطفأ الأشواق الرفيعة التي تضطرم في الأفئدة حين تهب عليها الأصداء والهتافات وأنسام الشجو من حنجرة تغرد على طبيعتها السليمة القوية، أو وتر يرتعش في يد ينضب إليها النغم الذائب الحادر في أعصاب العازف المترجم عن تلك الخفايا والأسرار والكلمات المكنونة في الكون ولا يخرج خبأها ويكشف سرها إلا أنامل عازف يعرف كيف يخنق الوتر الدقيق فيخرج حنينة، أو فم ساحر ينفخ في الناي فيخرج أنينه، أو لامس ماهر يلمس الطبل أو الدف فيهيج شجونه، ويرسلها في دبيب ودوي رهيب إلى الأسماع والأوصال فيدخل عليها من هواتف ما وراء المادة والكثافة والجمود ما يدخل!
ولقد هب على قلوب سامعي هذه الأغنية من أم كلثوم نسمات رفيعة من الطرب الحق الذي يثير أعظم ما في النفس الإنسانية من أحاسيس الحب والجمال والقوة والدين والوطنية والبر والتبتل والألم اللذيذ الوديع والرحمة القلقة الملهوفة، والثورة العازمة الواثقة، ما أجرى فيها طهارة ونقاء يطردان الدم الأسود المسموم، ويجريان بدله الدم النقي المطهر للنفوس من عوامل الضعف والفسولة والتخدير والحب الوضيع.
ولقد تقبل الجمهور المصري هذه الأغنية بكل حواسه الموسيقية والمعنوية في الحب والدين والوطنية بما يشجع على أن تتجه الأغاني إلى خدمة الأهداف القومية والأمجاد الرفيعة خدمة لا تتأتى إلا عن طريق الأناشيد السائرة على الحناجر الساحرة التي لها من السلطان