على الشرفة الغربية الكبرى، في فندق دجلة الكبير، المشرف على الصالحية وجسرها، في ذات ليلة قمراء من ليالي صيف عام ١٩٣٥، كنا جماعة صغيرة من أخوان الصفاء، فيها طبيب وكيميائي وصحافي وأديب؛ نحف بسيدة فاضلة، وافدة من بلاد المجر للسياحة ودراسة تقاليد العرب، وأطوار سكان البادية، وأحوال العامة، والأدب الشعبي غير المكتوب في العراق نكرمها مكبرين همتها القعساء التي جشمتها عناء السفر إلى بلادنا، في هذا الفصل الذي يشتد حره؛ فهرب منه كثير من أهلها المترفين إلى مصائف لبنان وغير لبنان، فراحت تتنقل بين القبائل أياماً وأسابيع، ثم تعود إلى هذا القصر الذي أعده أصحابه نزلاً للتجار والسياح والسياسيين والعلماء الأجانب من الأوربيين وأمريكيين وغيرهم، لتدون مذكراتها العلمية، وتسجل ما تقف عليه من قصص وأساطير، وما يحكي لها الرواة من حكايات وروايات تستعين بها على أداء مهمتها العلمية، ولتستريح يوماً أو أياماً قليلة ثم تعود إلى زيارة القبائل والتنقل في القرى والمدن باحثة مدونة ثم تعود. . .
ومع أنها كانت تبدو للرائي في أقل من الأربعين من العمر، فقد كان يعلوها جلال الشيوخ. وهي تنتمي إلى (عصبة علمية) تضم رجالاً أفذاذاً من الباحثين وعلماء المشرقيات. طويلة القامة، مغولية الملامح، لأنها من سلالة الهون. عالمة بخمس لغات ومنها التركية الحديثة التي تعلمتها في أستانبول. وقد عرفناها في ذلك الفندق مصادفة. وكنا نؤمه كل ليلة - في الشتاء والصيف - لنزجي فيه بعض أوقات فراغنا بالحديث والمسامرة، واستطلاع طلع (الغربيين) الكثيرين الذين نراهم فيه، فنتقرب إليهم متشوفين، متبينين نواياهم ونوايا حكوماتهم في بلادنا، منافحين عنها، ذاكرين لهم ما يخفى عليهم من محاسنها، وما في طبيعة قطينها وقطين الشرق كله، وقرارات نفوسهم من سمو في الخلق والعاطفة وقرب إلى الإنسانية والحق والخير، ناعين على الغرب ماديته وحضارته الرأسمالية الاستعمارية. وكثيراً ما كنا نجادلهم عن إيمان بحقنا وبحق الشعوب المظلومة في الحياة، فننتصر عليهم أحياناً بقوة الحجة، وينتصرون علينا أحياناً بالعناد والمغالطة والمكابرة وما إليها مما يتسلح