قال المسيب بن رافع: وانفض مجلس الشيخ، ودرجت بعد أعوام في عدة شهور من حمل المرأة، بلغت فيها أمور الناس مبلغها من خير الدنيا وشرها، مما أعرف وما لا اعرف؛ ودخلت البصرة وأنا ومجاهد الأزدي، نسمع الحسن
ونأخذ عنه؛ فإنا لسائران يوما في سكة بني سمرة، إذ وافقنا الفتى صاحب النصرانية مقبلا علينا، وكنا فقدناه تلك المدة، فأسرع إليه مجاهد فالتزمه وقال: مرحباً مرحباً بذي نسب إلى القلب؛ وسلمت بعده وعانقته؛ ثم اقبلنا نسأله، فقلت له: ما كان آخر أو لك؟ قال مجاهد: بل ما كان آخر أولها هي؟
فضحك الرجل وقال: النصرانية تعني؟ قال: نعم. قال: آخرها من أولها كهذا مني؛ وأومأ إلى ظله في الأرض ممدودا مشبوحاً مختلطا غير متميز؛ كأنه ثوب منشور ليس فيه لابسه، وكنا في الساعة التي يصير فيها ظل كل شيء مثليه فهو مزج المسخ بالمسخ. .
قال مجاهد: ما أفظ جوابك وأثقله يا رجل؟ كأنك والله تاجر لا صلة له بالأشياء إلا من أثمانها؛ فنظره إلى فراهة الدبة من الدواب وإلى فراهة الجارية من الرقيق سواء: قال الرجل: فأنا والله تاجر، وأنا الساعة على طريق الإيوان الذي يلتقي فيه تجار العراق والشام وخراسان؛ وقد ضربت في هذه التجاراات وحسنت بها حالي وتأثلت منها؛ غير أن قلب التاجر غري التاجر، فليس يزن ولا يقبض، ولا يبيع ولا يشترى. أما (تلك) فأصبحت نسيانا ذهب لسبيله في الزمن!
قال مجاهد: فكيف كنت تراها وكيف عدت تنظر إليها؟
قال: كنت انظر إليها بعيني وأفكاري وشهواتي؛ فكانت بذلك اكثر من نفسها ومن النساء، وكانت ألونا ألوانا ما تنقضي؛ فلما دخل بيني وبينها الزمن والعقل، أبعدها هذا عن قلبي وأبعدها ذاك عن خيالي؛ فنظرت إليها بعيني وحدهما، فرجعت امرأة ككل امرأة؛ وبنزولها من نفسي هذه المنزلة، رجعت اقل من نفسها ومن النساء، وهذه القلة فيما عرفت لا تصيب امرأة عند محبها إلا فعلت بجمالها مثل ما تفعله الشيخوخة بجسمها، فأدبرت به ثم أدبرت