قرأت مقال صديقي الأستاذ (عبد المنعم خلاف) الأخير في مجلة (الرسالة). ولقد حمدت له انفعاله لما قاساه إخوان لنا في الدين وأقرباء منا في الدم؛ ولكني أخذت عليه أن هذا الانفعال قد ساقه إلى نوع من الشماتة المؤذية، وإلى نظرة ظالمة في الحكم على أمة لم تبد عيوبها ولم تتضح زلاتها إلا بعد أن حطمتها القوة.
لا مكابرة يا عبد المنعم في أن الحكم الفرنسي في المستعمرات كان صارماً، ولا ريب في أن أسلوب حكام المستعمرات في القضاء على كل ما يمكن أن يصبح بذرة مبشرة بالنمو المؤدي للانفصال عن جسم الإمبراطورية - كان هداماً، وأن محاولات إدماج الممتلكات قد تغلغلت إلى الروح بعد وضع اليد على الجسد، ولكنك نسيت أشياء أخرى، نسيت أن الساسة ليسوا هم الأمة، وإن كانوا يعملون دائماً باسمها، وأن مجموع المحكومين لا يصل إليهم كثير من تفاصيل وسائل الحكام، وما يصلهم منها يصلهم ممزوجاً بالدعاية، مقروناً بأسباب فيها كثير من إسدال ستار صفيق على الحقائق التي يعرفها الساسة ولا يعرفها غيرها.
فهذه الأساليب في الحكم لا تمثل الأمة الفرنسية، ولو خوطبت فيها لأبدى كثير من الناس سخطهم ونفورهم منها؛ ولقد عاشرت الفرنسيين عن كثب وعرفت فيهم المغالاة في تقدير حرية الرأي، ورأيتهم يسمعون بآذانهم ما يقال في ذمهم في كثير من التسامح وسعة الصدر. ولو علمت أن أبناء أحط المستعمرات الفرنسية يعاملون في فرنسا نفسها معاملة الفرنسيين أنفسهم، يستوون معهم أمام القانون، كما يساوونهم في المعاملة وفي القدر الذي يلفونه من احترام الناس أو احتقارهم في غير تفريق بين الألوان والأجناس؛ لو علمت هذا لعجبت ولأدركت شيئاً من الأشياء التي تجعل كل أجنبي ينزل فرنسا يشعر بأن هذا البلد وطن ثان له. ولو عرفت بعد هذا أن فرنسا كانت مأوى جميع اللاجئين السياسيين من كل صنف ومن كل لون، وأن باريس وحدها كانت تؤوي نحو مليون من غير الفرنسيين لزاد عجبك، ولأدركت بعض الأسباب التي تدفع بمن ينتصرون اليوم لفرنسا إلى الانتصار لها على