الرغم مما يعلمون عن مساوئ حكمها في مستعمراتها، لأنهم يعرفون أن هذا النوع من الحكم إنما يسأل عنه فريق من أبنائها لم يستطيعوا أن يطبقوا هذه المناهج من الحكم على الأجانب في أرضهم لما يعرفونه من نفور أبنائها بطبعهم من الاستبداد.
والحكم في كل أمة من الأمم يكاد يتعاقب عليه أبناء طبقة من الطبقات في الجيل الواحد حتى ليصبح أشبه شيء بالحرفة تصطنعها هذه الفئة وتعرف بها فلا تكاد تخرج عنها، وتجدها تتوارث تقاليدها حتى ليصبح تطبيق هذه المناهج والقواعد أشبه بدورة ميكانيكية تؤخذ بها الأجيال المتعاقبة في كثير من أدوار التاريخ. وليس لك أن تطالب الشعوب في مجموعها بالنظر في أعمال الحكام، ذلك النظر الفاحص القائم على الدرس، لأن دون هذه الدراسة العامة ما يشبه الاستحالة العملية؛ وتيار الحياة البشرية، والقدر المتاح لكل فرد من القدرة على تحصيل عيشه وعلمه الأشياء يخضع دائماً لحاجاته ومواهبه؛ فليس لإنسان أن يسأل أمة من الأمم مهما بلغت ثقافة أبنائها: لماذا لم تعرفوا عن حكم حكامكم لكم ولغيركم ما يجعلكم في حل من إقصائهم عن الحكم إذا ما أساءوا السيرة لأنهم إنما يعلمون الأشياء في نطاق وسائل تحصيل الأخبار المتاح لهم؟
ومع هذا كله فإني لست لأبرئ الفرنسيين من أخطاء الحكم التي اقترفها حكامهم في الأراضي التي نزلوها، ولست أعصم هذه الأمة من الزلل، ولكني أتحدث الآن وفي نفسي ذكرى ماثلة لذلك التسامح الذي كنت أشهده بينهم في كل نواحي الحياة، وذلك النفور الثائر الذي كنت أراه منهم حين يحس أحدهم ظلماً يقع عليه أو على غيره. ولا زلت أشعر بتلك الطيبة الفياضة فيهم. لا زلت أذكر هذا وأنظر على ضوئه إلى الأشياء، ثم أحكم وإن كنت لا أزال أدع في جانب من نفسي مجالاً للضعف البشري، ولتلك الحاسة الحيوانية التي تأخذ بخناق الإنسان مهما ارتقى ومهما سما حين تهيج بنفسه غريزة الإحراز أو غريزة التملك.
فهؤلاء القوم في استعمارهم، وفي محاولاتهم الإدماج المادي والروحي للأمم التي كانوا يحكمونها، إنما كانوا مقلدين لغيرهم، وإن كانوا أفرطوا في التقليد. كانوا يقلدون في هذا أمة عزيزة علينا. ولا أظنك تجهل من أقصد؛ فإن العرب قد طووا تحت جناح الدين كل الأمم التي حكموها، وكان الدين يأمرهم بهذا ويأمرهم بالتسوية بين أبنائه. ولكن عوامل الضعف البشري والدين إنما نزل لتهذيبها أخذت تقوى على الأيام فاستيقظت العصبية، وانبعثت