للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الفوارق الجنسية، رغم ما سعى إليه الدين من إزالتها. وعاد البشر بشراً يمزقون عنهم ذلك الثوب الملائكي الذي رسمه لهم المثل الأعلى للدين الكريم. وانقلبت تلك الحياة الرتيبة التي كان يحياها المسلمون إلى حياة مضطربة صاخبة تطاحن فيها الأجناس تطاحناً أدى إلى انحطام الأمويين أولاً ثم البرامكة وغيرهم بعد ذلك. لا أريد أن أطيل في هذا فقد تعلم منه ما أعلم، وإنما ذكرت لك ما ذكرت عن طريق المثل. فالبشر هم البشر؛ وما الأديان وما تلك المدنيات إلا خطوات في طريق تقدم الإنسان الخلقي والمثالي يحقق كل منها على الأيام قدراً يتفاوت قوة وضعفاً، ولكنه من غير شك خطوة في طريق الكمال المجهول الذي تشرئب إليه الإنسانية وتطمح إلى بلوغه يوماً.

ولو كنا نحن الحاكمين لما حكمه الفرنسيون لما كنا خيراً منهم، فإن مبدأ حكم الأمم في ذاته مأزق يجر إلى مآزق.

لذلك قد يكون من الخير أن نترك هذه الناحية من نواحي أخلاق الأمم، وهذا الوجه من وجوه مدنياتها، لأنهم يتساوون فيه جميعاً، إلى غيره من صور المدنية لتعلم كم تركت هذه الأمة في تراث البشرية، وكم رسمت لها عن طريقي النظر والعمل من سبل لبلوغ غاياتها من الكمال والمثُل.

ويظهر أنني لست في هذا مبتدعاً ولا مبتكراً، ولكنه الطريق الفطري الذي يندفع إليه كل الناس بغرائزهم في الحكم على الأمم التي تركت أثراً في التاريخ. وليس أدل عليه من ذلك الشعور العميق من الحزن القائم الذي أحس به الناس حين كانوا يقرءون كل يوم خبراً عما كان ينزل بفرنسا. ولم يقم بهذه الحركة الشامتة وهي الحملة على فرنسا إلا قوم يخيل إليّ يا عبد المنعم أنهم لم يتبينوا حق التبين ما يجري في نفوسهم، ويخيل إليّ أن بعضهم لم يكتب ما كتب مخلصاً لفكرة أو مؤمناً بحقيقة.

إن الفرنسيون قد قادوا الأمم قيادة عملية إلى تحقيق قسط ضخم من الرخاء النفسي الذي تستمتع به الإنسانية اليوم. ولم تكن الثورة الفرنسية التي سالت فيها دماء فرنسا بغزارة إلا إحدى المحاولات الجبارة لدفع طبقة من الطبقات إلى الاعتراف بحقوق الإنسان، بعد أن عاش غالب البشر عبيداً يلهو أقلهم بآلام أكثرهم، ويسخر مجهوداتهم لترفه. وقد تكون هذه النعمة التي تستمتع بها أنت وأستمتع بها أنا من الحياة والتفكير الحر اليوم أثراً من آثار

<<  <  ج:
ص:  >  >>