للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نافقاء اليربوع]

للأستاذ محمود محمد شاكر

لي صديق، أطال الله بقاءه، يعيش في الدنيا وهو خارج منها، هذا غاية نعته وصفته: (يعيش في الدنيا) وهو حريص عليها، لا حرص البخيل الذي يجمع المال، ولا حرص المستمتع المستهتر باللذات، ولا حرص الطامح الطامع في الخلود - كلا بل هو حرص على حدته وعلى حياله لا يشبهه في الناس إلا قليل. هو حرص على التعجب منها ومما فيها، وهو حرص على النظر في الأشياء والحيرة في فهمها - واضحة كانت أو مبهمة، وهو حرص على استيعاب الحياة كما هي عند الناس من نظرائه ومن غير نظرائه. ولا يخرج من كل هذا الحرص الشديد على الدنيا التي تحت عينيه إلا بطول التساؤل وبتنازع الحيرة، وبالخوف مما كان ومما لم يكن. هذه واحدة.

وعجيب أنه أبدا مولع بهذا الحرص ولع المحب بحب جديد. وهو نفسه يعلم انه حرص عقيم لا يجدي عليه شيئا في معرفة الدنيا ولا في التثبت من شيء من أحوالها، ولكنه يزداد به على الأيام ولوعا وكلفا وغراما حتى يستهلك نفسه في السؤال والبحث والتقصي عن أشياء لا تغنى عنه شيئا، ولا يغني عقله في إدراكها، ولا يغنى قلبه في الإيمان بشيء منها. وهو يأبى أن يلقى على كاهله هذا العبء الثقيل الفادح، وان كان يثق كل الثقة بأنه شيء لا جدوى من حمله، ولا من الصبر على بلواه. هذه ثانية.

وثالثة الأثافي، كما قال أسلافنا، انه إنسان حي النفس قابل للتلقي، فكل شيء من حوله يثير في نفيه الفضول، وينشر عليه ذلك الحرص الشديد على المعرفة - مجدية كانت أو غير مجدية، لا يبالي. فإذا هو كالمغموم إذا اعترضه ما يعوقه عن الاستقصاء. واشد من ذلك هولا انه لا يكاد ينسى شيئا مما ائتمنته نفسه على استقصائه، إذا قطعه ذلك العارض البغيض إلى نفسه، فإذا عاد إلى ما لابد له منه عاد اشد رغبة في النفاذ والاستقصاء والبحث. فهو بذلك معان على الحرص على الدنيا وما فيها بالذي انطوت عليه جوانحه، وبالذي فطرت عليه نفسه، فهو لا يرى خلاصا، أو لا أرى أنا له خلاصا، من هذه العادة المتمكنة، أو هذه الخصلة الكامنة في أعمق أعماق - طبيعته.

فهو بهذا الذي وصفت: (يعيش في الدنيا)، ولكنه (خارج منها) بشيء آخر، وان كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>