للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

متصلا بهذا كله اشد الاتصال. فهو لا يكاد يعبأ بنفسه شيئا، بل هو لا يعرف إن له نفسا موجودة، أو اصح من ذلك انه يشك كل الشك في وجود نفسه، فهو أبدا مختلس من نفسه بالبحث عن نفوس الناس. وهذه مثلبة الفضول، فإنها تمنع المرء عن التأمل في نفسه، فإذا أراد أن يتأملها فكأنما يتأمل شيئا غريبا ليست بينه وبينها وشيجة أو آصرة أو عاطفة. ومن اجل ذلك تراه يدور من حياته هو في مثل الحلقة المفرغة لا يدري من أين يبدأ ولا أين انتهى، ولا يعرف أهذا هو الحق في فهم نفسه أم الحق سواه. ويذهب ويعود في البحث ولكنه لا ينتهي إلا إلى شيء واحد هو انه لا يدري.

كنت على وشك أن أكتب شيئا حين أسرع هذا الصديق إلى التلفون ليسألني هل قرأت جريدة (المصري)، وما جاء فيها من الذي سمته (النص الحرفي لمشروع اتفاقية صدقي - بيفن، ولبروتوكول الجلاء والسودان): وذلك في عدد الاحد١٠ نوفمبر سنة ١٩٤٦، وكنت قد فرغت لساعتي من قراءته ومن التعجب لما جاء فيه. وأنا لا أتستطيع أن اطمئن إلى نص مختلس لا ادري أحق هو أم باطل، ولكني قرأته فإذا لم يكن هو النص فكأنه هو، لأنه أشبه معوج بحقيقة العوج. ولا أظن أن الإنكليز يبلغ بهم صدق الطبيعة أن يقولوا في السياسة شيئا على وجهه وعلى استقامته، فلذلك خيل إلى أن في هذا النص طرفا من الحقيقة الدالة على طبيعة الاعوجاج في السنة هؤلاء الساسة الإنجليز، ولست اعجل إلى مثل هذا النص المختلس فأقول في عبارته قولا، فإن العجلة في مثل هذا شيء لا غناء فيه، كما لا غناء لك في إقناع الإنجليز بان الحق الذي لك هو حقك، إذا كان الإنجليزي يرى انه ليس حقا لك، وان ظاهرتك الدنيا كلها على حقك.

ونحن منذ كنت سنة ١٩١٩ أخذنا نجهل كيف يعامل هؤلاء الناس، فإن ذلك الخطل الذي ضرب على آذاننا وأبصارنا وقلوبنا، والذي يسمونه (المفاوضة) قد جرفنا في عباب متلاطم من الحيرة والضلال، فما نكاد نبصر ولا نعي ولا نعقل شيئا من حقيقة هذا الشعب الإنجليزي أو ساسته الذين يتصرفون في أمور الدنيا كأنهم وارثوها وأصحابها الذين تلقوا مقاليدها من يد الله القدير العزيز. وكننت أظن أن التجارب قد حنكت رجالنا فعرفوا مواعيد هؤلاء القوم، وأدركوا كيف تكون مواثيقهم منذ علا أمرهم في الارض، وكيف كان تاريخ معاهداتهم منذ كان لهم شأن في هذه الدنيا يكتبون من اجله المعاهدات. بيد أن ذلك لم يكن،

<<  <  ج:
ص:  >  >>