نعم يا آنستي العزيزة! لَشدَّ ما لاع القلبَ وراع الضميرَ ما قصصتُ من مآسي الحياة! ولا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب ما هو أمضُّ لوعة وأشد روعة.
وعدتِني أن تقصي عليّ أنباء من تعرفين من طرائد البؤس وأنضاء الهم، وأنا أقص عليك هذه القصة ريثما تنجزين هذا الوعد:
في المنصورة بلد المال والجمال والشعر كانت تعيش أسرة من أسَرِ الريف الغنية السريّة عيش اللهو والزهو والمرح. وكانت قبل ذلك تعيش في مزارعها الواسعة في قرى مركز (شربين) تستغل أراضيها الخصبة استغلال الدَّءوب اليقظ؛ حتى أبطرها الغنى، فرأت طرق الحقول التَّرِبة لا تلائم المركبة الفخمة، والبيت القروي العتيق لا يوائم الأثاث الأنيق، والقريةَ كلها لا تصلح مجالاً للعظمة ولا مجتلى للشهرة؛ فتركت ضياعها وزروعها في ذمة النُّظار والخَوَل، وأسلمت قيادها للبذَخ والسرف: ترتبع بالمنصورة، وتصطاف بالإسكندرية، وتُشتي بالقاهرة. وتظاهر على رب هذه الأسرة الجهلُ والطيش والفراغ والغنى والعُجب، فقلبته بين الحانات والمواخير قَفاً لوجه، حتى ركبه الدين والمرض، فباع الأرض لبنك (خوريمي)، والصحة لبار (أنسطاسي). وكبر عليه أن يعود إلى قريته ذليلاً بعد العز، فقيراً بعد الغنى، فظل في المدينة ولكن في بيت غير البيت، ومظهر غير المظهر. . .
تتألف هذه الأسرة من الوالدين ومن ست بنات وابن واحد. وفي هذا الصبي الواحد انحصر مستقبلها وأملها، فأرصدت ما بقي للأم من موروث الرزق على تربيته وتعليمه. فلعله يكون كابن فلان باشا: ينال (الليسانس)، ويعين وكيلاً للنيابة فقاضياً فمستشاراً فوكيلاً للوزارة. ويومئذ يرجع المال الذاهب، ويعود المجد المضاع، وتندم الشماتة الحاقدة. وكان الفتى نحيل البدن ولكنه ذكي مجد، فلم يتخلف في سنة، ولم يرسب في شهادة، حتى نال إجازة الحقوق. وكان في مدة دراسته الطويلة شغل الأسرة الشاغل: فالوالدان همهما تدبير المال له وتوفير الصحة عليه؛ والبنات الست عملهن غسل ثيابه وكي بِذَله وتصفيف شعره وتهيئة أكله