هي ما خلفها لنا الجيل الماضي القريب، وتسلمناها منه يداً بيد، ولست اعني ما خلفه من شعر ونثر وكتب في مختلف العلوم والآداب، فهذه قد حفظناهاونشرنا بعضها وعنينا بها إلى حد ما، إنما أعنى ما صدر عنهم من قول وعمل، وما كان يدور في مجالسهم من حديث طريف أو نافع، وما وقع لهم من أحداث، وكيف تصرفوا فيها، وأنماط مجالسهم وأحاديثهم ومجتمعاتهم، ونحو ذلك مما يدلنا على حقيقة شخصيتهم، ويفيدنا في تعرف مجتمعهم، ويعين المؤرخ بعد على رسم صورة صحيحه صادقه لحال المجتمع في ذلك العصر وقدر نابغيه كان لعلى باشا مبارك (صالون) كبير في بيته بشارع المضفر يغشاه عظماء الرجال والشبان وطلبه المدارس. وكان يدور فيه كل ليله من ألوان الحديث وشتى المقترحات ما ينبغي أن يسجل، ومثل ذلك في منزل عبد الله باشا فكري ومحمد باشا قدري ورفاعه بك ومثالهم، وكان نوع أحاديثهم ومباحثاتهم شيقاً ممتعا يصور عصرهم خير تصوير، ثم كان صالون كصالون الأميرة نازلي هانم (بعابدين) يختلف إليه قاده الفكر وعظماء الرجال في العصر القريب، يتحدثون فيه عن الشرق والغرب، وتثار فيه أفكار لها قيمتها وخطرها، وكان نمطهم في أحاديثهم يخالف ما كان عليه رجال على باشا مبارك وأمثاله. وكان غير هذه الصالونات مجتمعات وأحاديث ونوادر وفكاهات في البيئات المختلفة من بيئة فلسفيه كبيئة السيد جمال الدين، أو دينية اجتماعية كبيئة الشيخ محمد عبدة، أو فكاهية كبيئة الشيخ حسن الآلاتي، أو بيئة المغنين أمثال الحامولي ومحمد عثمان، وكان يجري في جميعها أقوال وأفعال هي أدل على الذوق المصري والخلق المصري من كل ما خلفوا من مؤلفات ومجلات وصحف. هذه الثروة التي لا تقدر، آخذه مع الأسف الشديد، في الضياع، وليس يدون منها فيما أعلم شيء يذكر، واكثر الذين عنوا بترجمة هؤلاء الرجال أساءوا إليهم والى التاريخ كل الاساءة، اذكانت ترجمتهم (ترجمة رسمية) اقتصروا فيها على اسم المترجم له والمولد وتاريخ الولادة، والمعاهد التي تعلم فيها والأعمال التي تولاها، والكتب التي ألفها وغير ذلك مما يعد من الأغراض، فأما الجوهر، واما شخصية الرجل، وأما حياته الاجتماعية التي تدلنا على من هو من قومه، ومن هو في نفسه، فلا يعرضون لها بشيء.