وقد كان السابقون الأولون على تقدم عصورهم، اصح نظراً، وأحسن أداء، وأوفى للتاريخ فبين يدي الآن جزء من كتاب الأغاني فتحته حيثما اتفق فوقع نظري على ترجمة إبراهيم الموصلي، فذكر نسبه ونشأته، وذكر حكايات عدة حدثت له مع غلمانه وجواريه وأصحابه، وما وصل إليه من الأموال وما ورثه أهله، وأحاديث عن مروءته، وأحداثا حدثت له مع الرشيد ويحيى بن خالد، وكيفية تعليمه الغناء للجواري، واتصاله بالخلفاء وسيرته معهم، وعدد الأدوار التي غناها، وعشقه ومن عشق، وأثر أصواته في الناس، إلى آخره مما يستطيع الأديب أو المؤرخ أن يضع له صورة دقيقة تمثله، ويضع لمجتمعه رسماً واضحاً يبينه، وبين يدي كذلك الجزء الأول من كتاب جامع التواريخ المسمى (نشوار المحاضرة) للتنوخي، يقول في سبب تأليفه: انه قد اجتمع قديماً مع مشايخ فضلاء، علماء أدباء، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الملوك والدول، وأحاديث البخلاء والظرفاء، والعلماء والفلاسفة، والأغبياء وقطاع الطرق والمتلصصين، (وعدد كل أصناف الناس)، وكانوا يوردون كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبعثه المفاوضة، فلما تطاولت السنون، ومات المشيخة الذين كانوا مادة هذا الفن، ولم يبق من نظرائهم ألا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، عمد من أجل ذلك إلى تدوين هذه الأحاديث في كتابه، والتزم أن يذكر فيه فقط ما يدور في المجالس مما لميذكر في كتاب ويقرؤه القارئ فيجده يصور عصره أجمل تصوير، وكتب الجاحظ لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أخبار عصره وأحداثه، الاجتماعية من الخصيان والغلمان، والبخلاء والظرفاء، والنبات والحيوان، ألا أحصته وشرحته في دقة وإسهاب، ومالنا نذهب بعيداً والعصر الذي نسميه مظلماً أنتج مثل (الجبرتي) الذي دون من الأحداث وتاريخ الرجال في عصره ما لم نفعله نحن لعصرنا أما كتبنا نحن فقد عمدت إلى خيرها وأخرجت منه ترجمه رفاعه بك، فوجدته يسرد ولادته وتاريخها والمدارس التي دخلها ورحلته إلى أوربا، والوظائف التي تولاها بعد عودته، وأسماء الكتب التي ألفها أو ترجمها، وسنة وفاته ولكنك تتساءل بعد قراءتها: من رفاعه بك؟ ما معيشته الاجتماعية؟ ما شخصيته؟، ما علاقته بقومه؟ فلا تجد شيئاً من ذلك. هذا حال رفاعه بك الذي ملاْ اسمه كل مكان، فما بالك بأمثال المغمورينظلماً، أمثال الشيخ حسن الطويل والشيخ حسين المرصفي وأمثالهما بل بالأمس القريب مات