وتحدث الفاتح طويلاً إلى المؤرخ وسأله عن أحواله وأخباره وسبب مقدمه إلى مصر وما وقع له بها، ثم سأله عن المغرب ومدنه وأحواله وسلاطينه، وطلب إليه أن يكتب له رسالة في وصف المغرب، وحدثه المؤرخ بأنه كان يسمع به ويتمنى لقاءه منذ أربعين سنة أعني منذ تألق نجمه وبزغ مجده، وشرح له طرفاً من آرائه ونظرياته الاجتماعية في العصبية والملك. ولا ريب أن مفاوضة في شأن المدينة وقعت أيضاً بين المؤرخ والفاتح واستطاع المؤرخ أن يقنع الرؤساء والفقهاء بالتسليم، فقد فتحت دمشق أبوابها للفاتح على أثر ذلك، وجاء القضاة والرؤساء وعلى رأسهم المؤرخ إلى معسكر تيمورلنك يقدمون له الخضوع والطاعة. ويقول لنا ابن خلدون إن تيمورلنك صرفهم واستبقاه حيناً، ثم أنصرف واشتغل أياما بكتابة رسالة في وصف بلاد المغرب حتى أتمها وبلغت على قوله أثنى عشرة كراسة صغيرة ثم قدمها إلى تيمورلنك فأمر بترجمتها إلى اللغة المغولية.
وكان المفهوم أن دمشق قد نجت بالتسليم من بطش الفاتح ولكن التتار احتجوا باستمرار القلعة في المقاومة فشددوا عليها الحصار حتى سلمت، ثم اقتحموا المدينة وصادروا أهلها وأوقعوا فيها السفك والعبث والنهب وأضرموا النار في معظم أحيائها وتكررت المناظر المروعة التي وقعت في حلب، على أن ابن خلدون لم يقطع صلته بالفاتح بل لبث متصلا به يتردد لزيارته خلال المحنة. وحدثه تيمورلنك ضمن ما حدث بأمر شخص تقدم إليه مدعيا بالخلافة وأنه سليل بني العباس وجرت مناقشات فقهية طويلة في شأنه أشترك فيها المؤرخ وأدلى فيها بآرائه ونظرياته في الخلافة. وقدم ابن خلدون أيضاً إلى الفاتح هدية هي (مصحف رائق وسجادة أنيقة ونسخة من البردة وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة) ولما قدمها إليه وضع تيمورلنك المصحف فوق رأسه بعد أن عرف أنه القرآن الكريم، ثم سأله عن البردة وذاق الحلوى ووزع منها على الحاضرين في مجلسه.
والتمس المؤرخ منه في هذا المجلس أماناً للقضاة والرؤساء والعمال فأجابه إلى طلبه وأصدر الأمان.
يصف لنا ابن خلدون هذه المحادثات والمقابلات التي وقعت له مع الفاتح التتري، وقد كان