ولكن العلامات التي تصدق في دلالتها، ويقل خطأها في إشاراتها هي على الأعم الأرجح علامات الصناعة دون علامات الطبيعة
لأن الطبيعة الإنسانية تتشابه في جميع الأزمان وتتماثل فيها الخصائص والعيوب بين جميع الأجيال، فلا يقال إن السخف وقف على عصر دون عصر، ولا إن الركاكة مقصورة على جيل دون جيل، وإن هذا البيت لا يمكن أن يصدر عن شاعر في الجاهلية لأنه سخيف، أو لا يمكن أن يصدر عن شاعر متأخر في القرن التاسع عشر لأنه متين ظاهر الفحولة، فهذه علامات لا تقطع بالقول الفصل على وجه اليقين، ولكنها تذكر للاستئناس كما يقال في لغة الفقهاء والمحامين، إذ يوجد السخف لا مراء في كلام الجاهلية كما توجد القوة والجزالة في كلام المتأخرين
إنما العلامات القاطعة في دلالتها التاريخية هي علامات الصناعة اللفظية والمعنوية على اختلافها في جميع اللغات؛ لأن المحسنات والموشحات وضروب التطريز والتشطير والتوشيع قد ظهرت عندنا في اللغة العربية على عهود معلومة تنحصر بالسنوات فضلاً عن الحقب والفترات. فلا يعقل أن يتكرر الجناس الكامل في الشعر الجاهلي ولا أن تصدر أفانين التوشيح عن مخضرم أو متقدم بين الأمويين. وقل مثل ذلك في كل علامة صناعية مرجعها إلى زمن معلوم
أما الركاكة أو السخف أو الإعياء أو اختلال الوزن فكل أولئك قد يوجد في الجاهلية كما يوجد في عصور المماليك. ورب بيت لشاعر من شعراء العصر الأول تسلكه بين أبيات النظامين من مداح الريف فلا تشعر بغرابته بينها. كقول حسان مثلاً:
وبحسبنا فخراً على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا
أو بيت عريق في القدم لو ألقيته على لسان خليع من خلعاء الأزبكية لجاز أن يكون من كلامه إذا نظرنا إلى الخلاعة والمجون، كقول الأعشى: