دعني - يا صاحبي - أنفض أمامك جملة حالي، فما في حديثي ما تضيق له النفس ولا ما ينزعج له القلب. هذا أمري وما كان لي الخبرة منه وإني لأضطرب بين نوازع جياشة لا تهدأ ولا تستقر.
فتعال - ياصاحبي - واجلس إلى جانبي والق إلى السمع ثم لا تلمني فأنا تجربة قاسية من تجارب الحياة. . .
صفعتني الأيام في غير شفقة ولا رحمة - أول ما صفعت - حين ماتت عني أمي طفلاً أدرج في فناء الدار، ولا أكاد أعي من أمر الحياة شيئاً، ولا أكاد أنأى عن حضن أمي إلا ريثما أعود إليه أجد فيه الحياة والدفء والحنان جميعاً، وأبي بين عمله وشبابه في شغل. وافتقدت أمي حين افتقدت القلب الذي يسعدني وأطمئن إليه، وحين غاضت الابتسامة الرفافة الساحرة التي تجذبني وتحنو على؛ فرحت أسأل عنها في شوق وأبكي بعدها في حزن وأهلي من حولي يوهمنني بأن أمي ذهبت إلى القاهرة تطب لمرضها. وعجبت أن لا أجد لها شبيهاً في من أرى. فهذه عمتي وهذه خالتي وهذه وهذه. . . لأحس في واحدة منهن معنى الأمومة ولا ألمس روح الحنان.
واشتد شوقي إليها ولجت بي اللهفة إلى رؤيتها، ثم انطوت الأيام وعبرتي ما ترقأ وحنيني ما يخبو.
وصحبتني جدتي لأبي - ذات ليلة - إلى دارها، وأرادتني على أن أستحم وجاءت هي تزيل عني أوساخ الإهمال وتمسح أعفار الشارع، تدهن شعري بالزيت وتضمخ جسمي بالعطر ثم تلبسني الحرير في رفق وتلفني في الدمقس في عناية.
يا عجباً! ما لوجه هذه العجوز الشمطاء يفيض بشراً وإشراقاً وما لها تتزين وتتطيب كأنها في ليلة زفافها!.
وسألتها ما الخبر، فقالت:(بابني غداً ستذهب لترى أمك في بيت أبيك) وثوثب قلبي طرباً وطار عقلي سروراً، وشملتني طفولتي فما أستطيع أن أكتم دوافع نفسي، فذهبت أملأ الدار