ضجيجاً وصخباً، أغني وأصيح وأنادي وأقفز وأجري، يكاد إهابي ينشق نشاطاً على حين يفيض قلبي فرحاً. غداً سأرى أمي! وافرحتاه! وذهبت أهيئ نفسي للقيا الحبيبة أزين وأتأنق وأقف أمام المرآة أتحسس ملابسي وشعري وحذائي. ونامت العجوز وأنا إلى جانبها لا يجد النوم إلى عيني سبيلا؛ والأخيلة الجميلة البسامة تتوزعني وأنا بينها لا أحس معنى الزمن ولا يضنيني السهر وقد مضى الليل إلا أقله.
وفي الصباح لصقت بجدتي أتبعها وأتعلق بثوبها، أستنجزها ما وعدت وهي تستمهلني، والساعات تنطوي. والأمل يخبو في نفسي رويداً رويداً حتى لفني الوجوم والأسى وبدت على الخيبة وضياع الأمل. وعند الظهر قالت لي جدتي:(الآن، نذهب لنرى أمك).
وذهبت إلى دار أبي، إلى جانب جدتي، أختال في الحرير والدمقس وأزهو في طفولتي وعطري وأرنو هنا وهناك وقلبي يخفق في شدةوعنف، ترى أين كانت تتوارى أمي، أفحقاً كانت تطب لمرضها في القاهرة؟ ودخلت حجرة واسعة من حجرات الدار فإذا عبير المسك يتضوع في نواحيها وتفوح في جنباتها روح العطر. ولقد تأنقت الحجرة في زينتها وتبرجت في أثاثها فهي تخطف البصر وتخلب اللب. وأخذت أقلب البصر في أرجاء المكان فما رأيت المرأة الجالسة في أقصى الحجرة إلا حين قالت جدتي العجوز (هذه أمك) واندفعت أنا إليها ألقى بنفسي بين ذراعيها وأدفن وجهي في حجرها لأستشعر الحنان والعطف وقد فقدتهما منذ زمان.
وألقيت بنفسي في حجرها ولكني لم أحس بذراعيها تنفرجان لتضماني ولا بنفسها تستبشر للقائي ولا بقبلها ينبض لمقدمي فرفعت بصري إلى وجهها أحدق فيه، واستلبتني الدهشة والحيرة من حياء الطفولة فأرسلت من شفتي صرخة مدوية وأجهشت للبكاء ثم رجعت إلى الوراء في فزع، رجعت صوب الباب لأن هذه المرأة لم تكن أمي. وشعرت بأنني أحتقر جدتي وأمقت المرأة التي زعموا أنها أمي.
وألفيت أبي لدى الباب فربت على كتفي في حنان وضمني إليه في عطف وقال: ما بالك؟ قلت: من عسى أن تكون هذه المرأة؟ قال: هي أمك. قلت: لا. قال: ألا أن لك أمين واحدة في القاهرة وهذه هنا! قلت: فما لي لم أرها من قبل؟ وتلعثم لسان أبي وماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا لي أن أبي كذاب فشعرت بأنني أحتقره وأمقته.