للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الذوق الأدبي العراقي]

للدكتور مصطفى جواد

للأدب العراقي سمة واضحة وخصائص لائحة ومزايا مشهورة ومقام شريف، ولكل صقع من الأصقاع تأثير في سكانه، تحدثه الوراثة والأرض والماء والهواء. وإن سلَّمنا نحن هذه الحقيقة فإنا لا نغلو فيها فنقول قول فيكتور كوزان العلامة الفيلسوف الفرنسي: (صفوا لي بلاد قوم أذكر لكم تاريخهم) ولقد علم علماء العرب القدماء هذه المعرفة وأسلافهم سبقوهم إليها، حتى ذكر ذوو الدراية أن عمر بن الخطاب، حين فتح الله البلاد على العرب كتب إلى حكيم من حكماء العصر: (إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن الأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها). فهذا الخبر - إن كان صحيحا - يدل على تفطن العرب لأثر المسكون في الساكن منذ أول العهود الإسلامية؛ وإن كان موضوعاً فإنه لا يخلو من كون هذا الرأي قديماً يزيد قدمه على ألف سنة

ودونك اسم باب من أبواب أحد الكتب القديمة (لُمع من ذكر الأرض وشكلها أو ما يغلب عليها وتأثيراتها في سكانها وما اتصل بذلك والأهوية وتأثيراتها). والعراق في صفة الأرض القديمة معدود من إقليم بابل، وفي نعته يقول أحد سكانه: (وأما العراق فمنار الشرق وسرة الأرض وقلبها، إليه تحادرت المياه، وبه اتصلت النضارة، وعنده وقف الاعتدال، فصفت أمزجة أهله، ولطفت أذهانهم، واحتدت خواطرهم، واتصلت مسراتهم فظهر منهم الدهاء وقويت وثبتت بصائرهم. . . وفضائل العراق كثيرة لصفاء جوهره وطيب نسيمه واعتدال تربته وإغداق الماء عليه ورفاهية العيش به. . . كانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد لأن أرضه من إقليم بابل الذي تشعبت الآراء عن أهله بحكمة الأمور، كما يقع ذلك عن القلب، وبذلك اعتدلت ألوان أهله وأجسامهم. . وكما اعتدلوا في الجبلة كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بمحاسن الأمور). فكل هذه المأثورات الدالة على أن الترب والأهوية والماء تأثيرات في السكان، كتبت في أواسط القرن الرابع للهجرة. ومما يؤيد اختصاص العراق بخصائصه الإقليمية المؤثرة في ثقافة سكانه ومعايشتهم وأخلاقهم ما ذكره سائح أندلسيّ بلنسيّ ورد بغداد سنة (٥٨٠) هـ والدولة

<<  <  ج:
ص:  >  >>