العباسية في عهد عزتها وفخامتها وزمن عظمتها من حيث العدل والتدبير والسياسة والاستقلال والسعادة والنظم والرسوم، قال:(وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طرباً وإن كان نازح الدار مغترباً حتى حللنا بهذا الموضع. . . وهو على مرحلة من بغداد. فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونقعنا الغلة ببرد مائها، أحسسنا من نفوسنا - على حالة وحشة الاغتراب - دواعي الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب في ريعان الشباب، هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيها على أهل وسكن:
سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... وردّ إلى الأوطان كل غريب
والذوق الأدبي هو إدراك محاسن الأديب ومعرفة دقائقه ولطائفه ونكاته، وهو للأديب ملكة تأسيس على مقاييس المحاسن الأدبية، وللقارئ الأدبي هو ملكة تمييز واستذاقة، وامتلاك هاتين الملكتين قائم على الدراسة والزمان والذهن، وبالذوق الأدبي يستطيع الإنسان قدر اللطائف الأدبية حق قدرها، وتعرَّف الحكمة وإحساس الأدب الجميل ولمح التأثيرات الأدبية في النفوس، وتمييز المستحسن من المستكره من الأدب بالإضافة إلى ذوي الأكثرية من أهل الأدب، ومعرفة ما يلائم الطباع من الآثار الأدبية، والغوص على النكات والدقائق، وعلم سبل الشعور المستقيمة، فمحروم الذوق الأدبي لا يدرك مثلا قول امرئ القيس:
ولا يعلم أن المراد به (معاً) هو أن الكر والفر والإقبال مجتمعة في قوة الفرس لا في فعله المقترن بالزمان، وذلك لأن المشتقات في العربية هي للنعوت والأوصاف لا للأفعال والأحداث، ولأن (معاً) للمصاحبة المطلقة، لا للزمان البحت، فلذلك يقال:(جاءنا مع العصر) بجعله مصاحباً للعصر في المجيء. ومن حرم المقياس عدم الإحساس
أجل تضافرت الآثار والأخبار على أن الذوق الأدبي العراقي حكيم بارع كريم، ألا ترى أن أبا علي محمد بن إسماعيل القاضي الطوسي، قاضي طوس المتوفى سنة (٤٥٩) هـ كان يلقب بالعراقي لظرافته وطول مقامه ببغداد، وما نشك في أن الظرافة العراقية هي سبب التلقيب وإن كان لقبه (البغدادي) لا العراقي لأنه أطال الإقامة ببغداد. وروى الإمام أبو