التاريخ مادته عمل ابن آدم وقوله. وابن آدم وان كذاب لا يقول الحق على نفسه ولا ينقل الصدق عن غيره. والذين أولعوا بتسجيل أعماله وأقواله من كل لون وجنس ووطن وزمن هم من سلالة خُرافة. وخرافة فيما زعموا رجل من أعراب جُهينة اختطفته الجن فلبث فيهم زمناً ثم رجع إلى قومه وأخذ يحدثهم أعجب الأحاديث مما رأى فكذبوه. ثم صار الناس يسمون كل حديث مستملح من الكذب حديث خرافة. والأقرب في نفسي أن يكون خرافة هذا رجلا رغَّاءً يعجبه أن يتحدث ويلذه أن يسمع الناس. فلما فرغ ما عنده من صرف الحديث وزخرف الرواية أخذ يصوغ الأخبار، وينسج الأقاصيص، ويصنع الأساطير، ويبتدع النوادر، ويختلق العجائب، وينسب ثمرات فنه إلى وادي عبقر وسكانه من الجن ليكون الحديث أعذب، والخبر أغرب، والتصديق أقرب. ومن طبيعة أكثر الناس تزيين الكلام والزيادة فيه، فلا تجد إنساناً ينقل حادثاً أو يروى حديثاً إلا دخل فيه برأيه وذوقه ومنفعته وهواه، فيغير ويزور ويموه وينمق، لا فرق في ذلك بين جاهل وعالم، ولا بين فرد وجماعة، ولا بين شعب وحكومة.
يقع الحادث اليوم بمرأى من الناس ومسمع فتحكيه الألسن وترويه الصحف، فلا تجد لساناً يوافق لساناً ولا صحيفة تطابق صحيفة! وتقرأ صحف العاصمة في حادثة من حوادث المدن، أو واقعة من وقائع الأقاليم، أو أمر من أمور العالم، فتجد له في كل جريدة رواية تناقض كل رواية، وصيغة تعارض كل صيغة، حتى ليبلغ الخلاف بينها حد التغاير، فتراها مثلا يو الأحد الماضي تجمع على أن الشُّرط اكتشفوا في شارع من شوارع القدس لغما من البارود؛ ولكن (البلاغ) تنفرد بأن الذي كشفوه منجم من الرصاص!
وتجلس في قهوة من القهوات فتسمع من الأفواه أصل الخبر وقد نبتت له فروع؛ ثم تسمعه في قهوة ثانية فإذا الفروع قد نبتت بها أغصان ثم تسمعه في قهوة ثالثة فإذا الأغصان قد نبتت لها أفنان؛ ثم تسمعه في قهوة رابعة فإذا الأفنان قد خرجت منها أزهار مختلفة الأشكال والألوان , فلا ينقضي النهار حتى تمسي بذرة الخير دوحة راسخة الجذور، باسقة الذرى، وارفة الظلال؛ أو قصة بارعةالخيال، رائعة العرض، شائقة الحبكة، فيها للحزبية مغزى، وللشيوعية مرمى، وللفضولية مسلاة.
وتشهد قضية من القضايا في المحكمة فتجد في الجناية التي ترتكب في سَواء الطريق وفي