ابتسم الصبح فابتسمت معه الثغور، وأرقت الشمس فأشرقت معها الوجوه وغنت الطير فتغنت معها النفوس بالآمال والأماني وبالأهواء والميول وتغنت معها نفوس أخرى بالأحزان اللاذعة، والآلام الممضة، والعواطف التي تفطر القلوب وتسفح الدموع. وأندفع قوم إلى السرور العريض، واندفع قوم آخرون إلى الحزن العميق، وتردد قوم بين هذا وذاك يأخذون من كليهما بحظ معتدل، ويؤلفون لأنفسهم منهما مزاجاً لا هو بالمشرق المبتهج ولا هو بالمظلم القاتم، وإنما هو شئ بين ذاك، فيه مكان للذة والأمل، وفيه مكان للألم والذكرى. وأضطرب الناس أيام العيد بين دور الأحياء ودور الموتى، يتحدثون إلى أولئك ويفكرون في هؤلاء.
وكثير من حديث الناس الأحياء، وكثير من حديثهم عن الموتى، خليق أن يسجل ويتخذ موضوعاً لألوان مختلفة من الأدب والفن. ولكن هذه الأحاديث تقبل مع أيام العيد، وتذهب معها كأنها لم تكن. تترك آثارها في نفوس الناس ولكنها لا تترك آثارها فيما ينشئون ويكتبون. لأنهم لا ينشئون ولا يكتبون، ولأنهم إن أنشأوا أو كتبوا فقلما يقفون عندما يشعرون أو يجدون، إنما يلتمسون موضوعاتهم في السماء حيناً، وفي السحاب حيناً، وبعيداً عن حياتهم إثما. فأن مسوا حياتهم فهم لا يمسون إلا ظاهراً منها، وهم يمسونه في رفق أقرب إلى الجدب الموئس منه إلى الخصب الذي يحيي النفوس ويغدو القلوب.
أما أنا فقد كنت أتحدث إلى نفسي وإلى أصدقائي في أيام العيد أحاديث مختلفة، منها الباسم ومنها العابس، فيها الجد وفيها الهزل. ولكني كنت أحتفظ لنفسي بأشد هذه الأحاديث مرارة ولذعاً. لأني أعلم إن الناس يكرهون في أيام العيد وفي غير أيام العيد مرارة الحزن ولذع الألم. وأشهد لقد استقبلت يوم العيد بحزن عميق لأني استعرضت صوراً تعودت أن أستعرضها كلما أقبلت الأعياد، وفكرت فيمن أزوره ويزرني، وفيمن أسعى إليه ويسعى إلي، فإذا كثير من هذه الصور قد محي من صفحة الحياة ولم يبق له إلا رسم في صفحة القلب، قوي عند قوم، ضعيف عند قوم آخرين. محيت هذه الصور من صفحة الحياة فلن أسعى إلى أصحابها، ولن يسعى أصحابها إلي، إما لأن أصحابها قد نقلوا من هذه الدار التي