حاولت أن أكتب عن أحمد رامي غير مرة، فكان الشعر يغازل قلمي، وكانت الدنيا كلها تمتلئ بالغناء والموسيقى من حولي، وكانت ترجمته تجتمع في خيالي نشيداً طويلاً تاماً متسق الألحان متنوع النغم، يضرب العقاد في مثانيه من هنا، والقصبجي في مثالثه من هناك، وبقية السادة النُّجُب، أفراد التخت الموقر الخالد من فوق ومن تحت، يلوّنَون ويفتنّون، والصوت الإلهي المقدس يشيع في اللحن فيرف به في القلوب، ويملأ به المشاعر، ويطوف به على العذارى والمحبين والمكلومين، فَيِطب للكبد الحَّرى، ويأسو الفؤاد المحترق، ويكفكف الدمع في المقلة المؤرقة، ويرطب اللسان الظامئ، والفم الغرثان، بالأغاني الصامتة، والآهات الخافتة، فيتسلى محب، ويرق حبيب
وكنت في كل مرة أستغني بهذا الخيال الجميل الحلو عن الكتابة، لأنه خيال روحي حي تمسخه الكلمات، وتزيفه تراكيب الجمل، ويُضَنُّ به على هذا الهراء الذي يسمونه التحليل في عالم النقد، وأسميه التزييف في دنيا الجمال. . .
يتهمني كثير من إخواني القراء بأنني أسخو في ثنائي على الشعراء الذين أختارهم للكتابة عنهم، وابتسم لي الأستاذ الزيات مرة وأوصاني بالاقتصاد في هذا الثناء؛ فمن عذيري إذا لم أجد مندوحة عن الثناء على رامي!. . . رامي الذي أغرم العالم العربي كله بأغانيه، فأنصت إليها، وتغناها، وهتف بها، وداوى بسحرها آلامه، وأروى بسلسالها أُوَاَمه، وجعلها مشرع حبه، وترنيمة وجده، وتعلَّة هواه
من منا أيها الإخوان لم يخل إلى نفسه فوجدها تردد أغاني رامي؟ ترددها راضية وترددها محزونة، وترددها مشوقة وترددها هائمة وترددها فرحة مرحة طروباً! من من أبناء هذا الجيل لم يملأ رامي عشرين عاماً من عمره السعيد المديد بما يمتلئ به قلبه من شعر وغناء ومحبة؟ من منا لم تسحره منظومات رامي التي أودعها أسرار قلبه، وسقاها مُنْهَلَّ دمعه، وخلط بها دمه ونجوياته وأمانيه؟!
إن رامي العظيم الخالد، هو ذلك النبع الأول الصافي ذو الخرير، الذي تفتأ الحمائم الوُرق تحوْم من فوقه وتهوى إليه، لتحسو من صفحته الحسوة والحسوتين تبل ظمأ وتشفى جُواداً،